يقول ابن القيم: إنها جاءت تَمَدُّحًا، فالله - تعالى - يمدح بها نفسه، ومعلوم أن الله إنما يمدح نفسه بالأمور الثبوتية، وهي الأمور التي فيها إثبات شيء يمدح به ، وأما العدم فإنه لا يمدح به، فالنفي المحض لا مدح فيه، فإذا قلنا مثلاً: إن العدم لا يُرى ، هل هذا مدح له ؟ ليس فيه مدح؛ لأن المعدوم ليس بشيء. فإذا كان المعدوم لا يُرى، فإن نفي الرؤية ليس فيه مدح، فعرف بذلك أن الآية وردت للتمدح، أثبت الله أن الأبصار لا تحيط به، يعني: متى رأته الأبصار لم تحط به ، أي: لا تدرك ماهيته ، ولا تدرك كنهه، ولا تدرك كيفية ذاته ، وذلك لعظمته التي لا يحيط بها علمًا أحدٌ من الخلق { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } ( طه:110 ) . إذًا فصارت الآية دليلا على إثبات الرؤية لا على نفيها، لكنهم قوم يجهلون، فلو تأملوا في سياق الآية قول الله تعالى: { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } ( الأنعام:102-103 ) كل هذا تمدح، فكيف يتمدح بشيء لا فائدة فيه ، فنفي الرؤية ليس بمدح؛ لأنه ينطبق على المعدوم، فدل على أنها للتمدح، وأنها تدل على أن الأبصار تنظر إليه، ولكن تعجز عن الإحاطة به لعظمته ولكبريائه ولجلاله، فصارت الآية تدل على إثبات الرؤية لا على نفيها. وأما الآية الثانية: وهي قصة موسى عليه السلام، قال تعالى: { قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } ( الأعراف:143 ) أولًا: موسى - عليه السلام - نبي الله، كلمه الله ، وحمّله رسالته، واصطفاه، قال تعالى: { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } ( طه:41 ) وقال تعالى: { إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي } ( الأعراف:144 ) فهل موسى عليه السلام - وهو نبي الله - يجهل ما يجب على الله، وما يجوز على الله ؟ هل يكون المعتزلة أعلم من موسى بربه ؟ حاشا وكلَّا ، لا يمكن لموسى أن يجهل وهم يعلمون ، إن موسى - صلى الله عليه وسلم - الذي هو من أولي العزم، ومن أشرف الأنبياء ومن أفضلهم لا يجهل هذا الحكم، فهل يأتي المعتزلة ونحوهم ويعلمون ما لا يعلمه موسى ؟ هذا من أمحل المحال. ثانيًا: قول موسى { رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ } ( الأعراف:143 ) هذا في الدنيا، يعني: أراد أن يتمكن من النظر إلى ربه رجاء أن يزيد بذلك يقينه، أو أن يتنعم ويتلذذ بهذا النظر، قال الله له: { لَنْ تَرَانِي } ( الأعراف:143 ) وليس في هذا عتاب. فالله تعالى قد عاتب نوحًا عليه السلام لما قال: { رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي } ( هود:45 ) قال الله سبحانه وتعالى: { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } ( هود:46 ) أنكر على نوح لما سأل: ربي نج ابني الذي غرق في البحر، غرق في الطوفان، ربي إنك قد وعدتني أن تنجيني وأهلي، وإن ابني من أهلي ، والله تعالى يقول: { وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ } ( المؤمنون:27 ) . فأنكر عليه ذلك ولم ينكر على موسى لما قال: { رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ } ( الأعراف:143 ) بل قال تعالى: { لَنْ تَرَانِي } ( الأعراف:143 ) يعني: لا تراني في هذه الدنيا؛ لأن بِنْيَة الإنسان في الدنيا ضعيفة لا تتمكن من التمثل أمام عظمة الله تعالى، فخلقنتا في هذه الدنيا لا يمكن أن تثبت لجلال الله تعالى. وقوله تعالى: { وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } ( الأعراف:143 ) علق الله تعالى رؤيته على ثبوت الجبل، فيمكن أن يثبت الجبل مكانه، والله تعالى يقول؛ إذا ثبت الجبل فإنك ستراني، فإذا كان الثبوت ممكنًا فالرؤية ممكنة، والله تعالى يقدر أن يثبت الجبل لبروزه سبحانه ولتجليه، وقد علّق عليه رؤية موسى فدل على إمكانها ، كما أن إمكان الثبوت متحقق، فقوله تعالى: { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } ( الأعراف:143 ) تجلى الله تعالى كما يشاء للجبل، فإذا تجلى للجبل، أفليس يمكن أن يتجلى لعباده يوم القيامة. الجبل جماد تجلى الله له، ومع ذلك فإن الجبل لما تجلى له آنذاك ذهب حتى قيل: إنه انخسف في الأرض، وذلك لهيبة الله ولجلاله، لما أنه تجلى للجبل جعله دكّا، فالآية دليل على إثبات الرؤية لا على نفيها، وإلا لم يكن موسى عليه السلام سأل الرؤية، وهو من أعلم الخلق بربهم. ثم إن الخليلي -الذي ذكرناه- في كتابه ( الحق الدامغ ) تسلط على هذه الآيات التي استدل بها أهل السنة، وحرّفها تحريفًا بعيدًا حتى إنه هو وغيره في قوله تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } ( القيامة:22-23 ) قالوا: إن الله لم يذكر العيون إنما ذكر الوجوه، وقال بعضهم: النظر ليس هو المعاينة، وإنما هو انتظار الثواب؛ ناظرة للثواب، وتمحل بعضهم، وحرف كلمة ( إلى ) وقال: الإلى واحد الآلاء، يعني: النعم، ( إلى ) أي: نعمة ربها ناظرة!! . فمن أين لهم هذا الاستنباط الذي ما تفطن له أحد من العلماء ولا من السلف ؟! إن قولهم: ( إلى ) أي: نعمة ربها ناظرة، تمحل وتكلف وصرف للقرآن عن مدلوله. هذا قول المعتزلة. |