وبكل حال متى استوفى المسلم هذه الخصال وعمل بها؛ سميناه: مؤمنًا كامل الإيمان، وإذا نقص منها قلنا: مؤمن ناقص الإيمان، والخلاف هنا مع المعتزلة والخوارج: فالمعتزلة بمجرد ما يترك خصلة من خصال الإيمان أو يفعل معصية يخرجونه من الإيمان، ولا يدخلونه في الكفر، بل يجعلونه في منزلة بين المنزلتين؛ هذا في الدنيا، ويقولون: لا نحكم عليه بالكفر في الدنيا، بحيث يقتل أو يسبى، بل نقول : لا مؤمن ولا كافر، بل بينهما. أما الخوارج فيقولون: بمجرد ما يرتكب ذنبًا أو يترك طاعة خرج من الإيمان وحلَّ دمه وماله. وأما أهل السنة فيقولون: إنه مؤمن، ولكن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فيسمونه مؤمنًا، ولكن مع الإيمان يتصف بالفسق، فلا مانع من أن تقول: مؤمن فاسق، أو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته. لكن هنا دليل استدل به المعتزلة ونحوهم، وهو الحديث الذي في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينهب نهبه يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن } رواه البخاري في الإيمان برقم (475)، ومسلم في الإيمان برقم (10، 104). . فإنه نفى عنه الإيمان، والجواب: إن المراد نفي الإيمان الكامل، فهو معه إيمان ناقص ، أو ( لا يزني الزاني وهو مؤمن ) يعني: أنه ليس معه الإيمان الذي يحجزه عن المعاصي، بل إيمانه مضطرب ومختل، وبعض الشراح يقولون: إن الإيمان يخرج منه ويصير عليه كالظلة انظر السلسلة الصحيحة للألباني برقم (509)، وذكر حديث أبي هريرة مرفوعا: "إذا زنى العبد خرج منه الإيمان وكان كالظلة؛ فإذا انقلع منها رجع إليه الإيمان". ما دام متلبسًا بمعصيته ، ولكن لا يرجع إليه سالمًا، بل يرجع إليه مختلا وناقصًا ، وبكل حال هذا دليل واضح على أن أهل الإيمان يتفاوتون. وأما أدلة زيادته: فذكر منها ابن قدامة ثلاثة أدلة، وذلك لأن القلب تتوارد عليه الأدلة فيزيد الإيمان فيه، وقد يذهب بعضها فينقص، وقد تأتيه شبهة فتنقص اليقين الذين فيه ويبقى ناقصًا. ومن الأدلة أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: { يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من إيمان، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي لقلبه وزن ذرة من إيمان } أليس هذا دليلا على التفاوت، فبعضهم إيمانه مثقال دينار وهو قطعة من الذهب، وبعضهم مثقال خردلة؛ حبة صغيرة ، وهذا دليل على أنهم متفاوتون، هذا أنقص من هذا، وهذا أزيد من هذا، فدل على أنهم يتفاوتون. واستدلوا أيضًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم؛ مخاطبًا للنساء في خطبته يوم العيد: { ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن، قلن: يا رسول الله، وما نقصان العقل والدين، قال: أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل ، فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان ، فهذا نقصان الدين } رواه البخاري في الحيض برقم (304)، ومسلم في الإيمان برقم (79). فجعل تركها الصلاة -وإن كانت معذورة - نقصًا في دينها، فالرجل يزيد عليها في صلاته في تلك المدة، فدل على أن الإيمان يزيد بالطاعة من الصلاة والصدقة والصيام ونحوها، وينقص بترك الصلاة أو بترك الصيام وما أشبهه. وأهل السنة قالوا: إن المؤمنين يتفاوتون في الإيمان ولا يكفّرون بالذنوب، بل يعذرون العاصي، ويقولون: إنه مؤمن، ولكنه فاسق، أو عاص، ولو عمل أي عمل ما لم يكن ذلك العمل مخرجًا من الملة. والأحاديث التي أطلق فيها الكفر على بعض الأعمال يقال: إنه كفر عملي، مثله قوله صلى الله عليه وسلم: { اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت } رواه مسلم في الإيمان برقم (67). معلوم أن هذه لا تصل إلى الكفر الذي هو الكفر بالله، والذي يبيح الدم والمال، ولكنه كفر عملي فيه شيء من التكذيب في بعض الشريعة. والأحاديث التي فيها الوعيد على بعض الخصال تسمى أحاديث الوعيد تُجرى على ظاهرها ليكون أبلغ في الزجر، مع العلم بأنها لا تخرج من الملة، ولو كان ظاهرها فيه إخراج من الملة، فإذا سمعنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: { ليس منا من لطم الخدود، أو شق الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية } رواه البخاري في الجنائز برقم (1294)، ومسلم في الإيمان برقم (103). هل نقول: هذا ليس من المسلمين، مع إنه ما عمل إلا هذا العمل، هل خرج بذلك من الإيمان ؟ هذا من أحاديث الوعيد، ونعتقد أنها لا تخرج من الملة، ولكن نمرّه على ظاهره ليكون أبلغ في الزجر. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: { من غشنا فليس منا } رواه مسلم في الإيمان برقم (101). وقوله صلى الله عليه وسلم: { من عقد لحيته، أو تقلد وترًا، أو استنجى برجيع دابة أو عظم؛ فإن محمدًا بريء منه } رواه أبو داود في الطهارة برقم (36). هل يكون معناه أنه خرج من الدين؟ وهذه الأحاديث كثيرة. ولذلك فإن الإمام مسلمًا رحمه الله بدأ صحيحه بكتاب الإيمان، وأورد فيه مثل هذه الأحاديث التي فيها إشكال على بعض الناس، وفيها شك -للدلالة على أن الإيمان يتفاوت مثل قوله صلى الله عليه وسلم: { من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان } رواه مسلم في الإيمان برقم (49). أليس فيه دليل على أن الإيمان يتفاوت وأن هناك إيمانا ضعيفاً. كل هذا رد على الذين يقولون: إن الإيمان شيء واحد، وأن نقصانه ذهاب له, وممن كتب في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب (الإيمان)، وهو مطبوع في المجلد السابع من مجموع الفتاوى، ومطبوع أيضًا مفردًا، وكذلك في كتاب الإيمان في صحيح البخاري وفي أكثر كتب المحدثين، وكذلك الكتب المستقلة؛ ككتاب (الإيمان) لابن أبي شيبة صاحب المصنف ، وكتاب (الإيمان) لأبي عبيد القاسم بن سلام وكتاب (الإيمان) لابن منده وكلها مطبوعة ميسرة ولله الحمد. |