قوله: ( ومحمد صلى الله عليه وسلم: حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه خاتم النبيين وسيد المرسلين، لا يصح إيمان أحد حتى يؤمن برسالته، ويشهد بنبوته، ولا يقضى بين الناس في يوم القيامة إلا بشفاعته، ولا يدخل الجنّة أمة إلا بعد دخول أمته، صاحب لواء الحمد، والمقام المحمود، والحوض المورود، وهو إمام النبيين وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم. ) شرح: بعدما ذكر ما يتعلق بحق الرب سبحانه وتعالى، ذكر أيضًا حق النبي صلى الله عليه وسلم، فإن له حقا على أمته، حقا نعتقده فيه ، وحقا نعامله به ، ولكنه حق يناسبه صلى الله عليه وسلم، فحق الله تعالى يليق به، فلله حق وللنبي - صلى الله عليه وسلم - حق . يقول ابن القيم: للربّ حقٌ ليس يُشبه غيره ولعبده حـقٌ همـا حقـان لا تجعلوا الحقين حقًّا واحدًا، أي: لا تخلطوا بين الحقين ، فحق الله تعالى منه أن نعرفه ونعبده، وندعوه ونعظمه، ونعتقد صفات كماله ونعوت جلاله، أما حق النبي صلى الله عليه وسلم فهو تصديقه؛ فنشهد بأنه مرسل من ربه، ومن كذب برسالته لم يصح إيمانه؛ وذلك لأن معرفة الله، ومعرفة حقوقه، ومعرفة العبادة ومعرفة الإيمان باليوم الآخر، ومعرفة العبادات كلها، إنما جاءت بواسطته، فهو الذي جاءنا بالقرآن، وهو الذي شرح لنا القرآن، وهو الذي علمنا هذه السنة، وعلمنا كيفية الأعمال؛ إذًا فله حق على أمته أن يشهدوا له بأنه مرسل من ربه، ثم يشهدوا أيضًا بفضله وبمزيته، وبما أعطاه الله من الفضل، وفضّله على الأنبياء قبله، والناس بالنسبة إلى حق النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أقسام: طرفان ووسط: الأول: الذين جفوا في حقه ، لا يأخذون من سنته إلا ما يوافق أهواءهم، ولا يعملون من شريعته إلا بما يناسبهم، إذا جاءتهم السنة التي سنها نظروا؛ فإن ناسبتهم أو وافقت ميلهم صدقوها وقبلوها وعملوا بها وإلا نبذوها وطرحوها، فهؤلاء ما صدقوه حق التصديق، حيث إنهم قبلوا بعض الشريعة دون بعض، فأخذوا منها ما يناسب أهواءهم, وهذا حال من يسمون في هذه الأزمنة بالعلمانيين، فإنهم ولو تسموا بأنهم مسلمون وأتوا بالشهادتين ولكنهم لما طرحوا كثيرًا من السنة وتركوا العمل بها أصبحوا غير مصدقين حقًّا ، فعندما نجادل أحدهم نرى أنه شبه مكذب وإن كان مصدقًا بلسانه، ونقول له: إنك ما اتبعته حق الاتباع ، فإذا رأيناه مثلا يحلق لحيته قلنا له: أليس قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فيقول ما معناه: إنا نجاري الناس ونأخذ بما عليه أهل زماننا , أليس هذا عصيانًا لله ورسوله؟ , إذا عصيت الرسول فقد عصيت الله، والله تعالى يقول: { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } (النساء:80) يعني: ومن يعصِ الرسول فقد عصى الله, كذلك الذين يبيحون للنساء التبرج وخلع جلباب الحياء، ويخالفون السنة، وما أمر الله به المؤمنات بقوله تعالى: { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ } (الأحزاب:59) هؤلاء أيضًا ما صدقوا الرسول حقًّا، فكأنهم لم يعملوا بالشريعة حق العمل بل أخذوا منها ما يناسب أهواءهم, زيادةً على بقية الأعمال التي يعملونها كإباحة الربا، وأكل المال بغير الحق، والتخلف عن صلوات الجماعة ونحوها، والتنقص للأعمال الشرعية كالجهاد والحج والعمرة والتعبد والصيام والصلاة وغير ذلك ، فالحاصل أن هذا الطرف يعتبر جافيًا في حق النبي صلى الله عليه وسلم . الثاني: هم الغلاة: الذين غلوا في حق النبي صلى الله عليه وسلم حتى جعلوه إلهًا أو وصفوه بما لا يتصف به إلا الله تعالى، وما أكثر الكتب التي ألفت في مثل هذا، ومع ذلك انتشرت وتمكنت، وكثر الذين ينشرونها ويذيعونها، وفيها خرافات وأكاذيب ، ومع ذلك راجت على ضعفاء البصائر، حتى وقع في ذلك كثير من العلماء المشاهير, فمنها: (الخصائص الكبرى) للسيوطي ؛ ذكر فيها حكايات غريبة وقصصًا لا أصل لها كلها في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها بعيدة عن الثبوت لا يصدق بمثلها عاقل ، وقد اشتهر أن السيوطي ينقل عن غيره من غير تمحيص ، فهو كحاطب الليل يأخذ ما وجده - وإن كان من مشاهير العلماء - وهكذا الشعراني القديم له كتب في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وفيها مبالغة وغلو كبير ، وكذلك رسالة مشتهرة عند الخرافين واسمها " روض الرياحين " وفيها زيادة في الغلو في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وإطرائه بما لا يليق أن يوصف به إلا الله سبحانه وتعالى , وتبعهم كثير من المتأخرين كالنبهاني وزيني دحلان وجميل صدقي الزهاوي وهكذا جدد هذا ابن علوي في كتابه الذي سماه (الذخائر) فإنه حشد فيه من هذه الحكايات، وإن كان قد عزاها إلى أصولها التي نقلها عنها، ولكن لم يميز بين الصحيح والضعيف، ولم يبين ضعفها، فدعا ذلك إلى تقبل الجهلة والعوام لها، مما يحمل العامة على الغلو والزيادة في الإطراء الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم, لا شك في أن هذا لا يجوز، وقد وردت الأدلة في النهي عن مثل هذا كقوله صلى الله عليه وسلم: { لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله } رواه البخاري في أحاديث الأنبياء برقم (3445). والإطراء: معناه المبالغة في المدح ، ولما قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: { بل ما شاء الله وحده } رواه الإمام أحمد في مسنده (1/214، 224). { ولما جاءه وفد بني عامر وقالوا له: يا سيدنا، قال لهم: (السيد هو الله) قالوا: وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا, قال: (أيها الناس، قولوا بقولكم أو بعض قولكم؛ أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله } رواه الإمام أحمد في مسنده (4/24، 25)، وأبو داود في الأدب برقم (4796). , ولما جاءه أحد الأعراب وقالوا له: هذا رسول الله , ارتعد الأعرابي فزعًا؛ يعتقد أن له شأنًا، فأجلسه إلى جنبه وقال: { هون عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد } رواه ابن ماجه في الأطعمة برقم (3355). يريد بذلك تواضعه عليه الصلاة والسلام، وجلس مرة على التراب وقال: { إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد } أورده ابن عدي في الكامل (5/334) في ترجمة عبد الحكم بن عبد الله القسملي، وهو منكر الحديث. ونحو ذلك من الأدلة التي يحث فيها على التواضع ، لأنه لا يجوز أن يصفوه بما لم يصفه به ربه, فهذان طرفان ؛ الذين جفوا كالعلمانيين، والذين غلوا كالمشركين الذين رفعوه فوق قدره وأوردوا في ذلك الأكاذيب التي يمجها السمع, مثل الحديث الموضوع الذي يقول: " لولاك ما خلقت الأفلاك " يعني: لولاك ما خلقت الكون ، يرددون مثل هذه الأحاديث، كالحديث الذي فيه: { أن آدم رأى على قائمة العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأنه قال: يا رب، أسألك بحق محمد فقال: وما محمد؟ قال: رأيت اسمه مكتوبًا معك على العرش، فسألتك به وعرفت أنه لا يكتب إلا من له قدر، فقال: صدقتَ يا آدم، لولا محمد ما خلقتك } رواه الحاكم في المستدرك (2/615)، وقال: صحيح الإسناد.. وتعقبه الذهبي بقوله: بل موضوع. , حشد ابن علوي وغيره في مؤلفاتهم ما يزعمون به أنهم يقدسون النبي صلى الله عليه وسلم وأن ذلك دليل على محبته ، فنقول لهم: إن كنتم تحبونه فاتبعوه، فالمحبة إنما هي في اتباعه لا في تعظيمه وإعطائه شيئًا لا يستحقه إلا الله. |