وقوله: ( وأما النسبة إلى إمام في فروع الدين ؛ كالطوائف الأربع فليس بمذموم ، فإن الاختلاف في الفروع رحمة، والمختلفون فيه محمودون في اختلافهم مثابون في اجتهادهم، واختلافهم رحمة واسعة، واتفاقهم حجة قاطعة, نسأل الله أن يعصمنا من البدع والفتنة، ويحيينا على الإسلام والسنة، ويجعلنا ممن يتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحياة، ويحشرنا في زمرته بعد الممات، برحمته وفضله - آمين, وهذا آخر المعتقد، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. ) شرح: هذا آخر العقيدة، ختمها بهذه الجملة، وهي حكم الانتساب إلى المذاهب الأربعة الفرعية ، وقد ذكرت قريبًا أن هذا يعتبر من الفروع لا من الأصول، أو يلحق بأصول الفقه، ولكن هناك من يجعله من أصول العقائد، ويتشدد في النهي عن الانتساب إلى التمذهب ، فهناك فرق في الهند وفي الباكستان يسمون أنفسهم (أهل الحديث) يشددون على المنتسبين إلى المذاهب، ولكن لا نلومهم؛ لأن هناك من يتعصب عندهم للمذاهب تعصبًا زائدًا، فآل بهم الأمر إلى أن جعلوا الانتساب إلى المذهب كالانتساب إلى المعتقد، فقالوا: لا يجوز أن تكون جهميًّا ولا أن تكون أشعريًّا، ولا أن تكون كرّاميًّا، ولا كٌلابيًّا، ولا سالميًّا، ولا واصليًّا، ولا نظاميًّا، ولا جاحظيًّا، وما أشبه ذلك، ولا يجوز أن تكون شافعيًّا، ولا حنبليًّا، ولا مالكيًّا، ولاحنفيًّا، ولا ثوريًّا، ولا ليثيًّا. وجعلوا الانتساب إلى المذاهب كالانتساب إلى المعتقدات، وهذا خطأ وما ذاك إلا أن أهل المذاهب أولا كلهم من علماء السنة، وكلهم من أهل الحديث، فتح الله تعالى عليهم ورزقهم فقهًا وفهمًا، فجمعوا بين الحفظ والفهم، فأدى بهم اجتهادهم إلى أقوال دونوها في مؤلفاتهم. فأولهم ( أبو حنيفة ) رحمه الله، كان ذكيًّا، عنده قوة إدراك، وعنده قوة فهم، فكان يفتي بهذه الفتاوى ويعللها، ويسّر الله له تلميذين وهما أبو يوسف ومحمد بن الحسن سجلا فتاواه وأقواله في مؤلفات كثيرة، فانتشر مذهبه، وبسبب كتب هذين العالمين تمكن وصار له مذهب متبع، وهو لم يكتب هذه الفتاوى بنفسه، إنما تارة يمليها على التلاميذ، وتارة يكتبونها هم؛ إذا استفادوا منه فائدة كتبوها ثم جمعوها في مؤلف، ثم انتشر هذا المذهب واعتنقه من اعتنقه. ثم جاء بعده (الإمام مالك) وألف كتابه (الموطأ) واختار فيه ما اختار، ولما انتشر اعتنقه من اعتنقه، ورأى كثير من العلماء أنه عالم المدينة وأنه محدث جليل كبير، حتى إن المنصور العباسي في زمانه قال: نريد أن نحمل الناس على العمل بالموطأ كما أن عثمان حملهم على المصحف ، فامتنع مالك رحمه الله، وقال: إن الصحابة تفرقوا، وإن عندهم من العلوم ما فاتنا، وليس كل العلم قد حويته، أجل ولا العشر ولو أحصيته ، ثم تتلمذ عليه أيضًا تلميذ جمع من فتاواه شيئًا كثيرًا في الكتاب الذي اسمه (المدونة) المطبوع في خمسة مجلدات كبار، انتشر مذهبه بسببها في أكثر البلاد المغربية والأفريقية بسب أنهم ذهبوا بكتبه هناك. ثم جاء بعده ( الشافعي ) رحمه الله، وألَّف كتاب (الأم)، و(الرسالة) والرسائل الكثيرة المطبوعة معهما، وهو الذي أملاها أو كتبها، واختصرها بعض تلامذته، فكان ذلك سببًا أيضًاً في أن تتلمذ عليه تلامذة كثيرون في الشام وفي مصر وفي العراق وفي الحجاز وفي اليمن وفي كثير من البلاد، وكثر اتباعه الذين على مذهبه بسبب اعتمادهم على هذه المؤلفات. ثم جاء بعده -أو في زمنه- الإمام ( أحمد بن حنبل ) وكان رحمه الله لا يحب أن تكتب فتاواه، فلم يكتب في الفقه وإنما كتاباته فيما يتعلق بالحديث أو فيما يتعلق بالعقيدة، ولكن تتلمذ عليه تلامذة محبون له فكانوا يكتبون فتاواه، هذا يكتب مجلدًا، وهذا يكتب ورقتين، وهذا يكتب عشرين ورقة، وهذا كتب وهذا كتب، وحتى ذكروا أنه جمع من فتاواه أكثر من ثلاثين مجلدًا، ثم جمعها أحد تلاميذهم وهو أبو بكر الخلال صاحب كتاب (السنة) في عشرين مجلدًا أخذها من تلامذته. وجاء أيضًا بعده تلميذ له وهو محمد بن حامد وجمعه أيضًا في مجموع آخر، وكاد مذهب الإمام أحمد أن يضمحل ولا يكون له أتباع إلى أن جاء عهد القاضي أبي يعلى فاعتنق هذا المذهب، ولما تولى القضاء أظهر هذا المذهب ودعا إليه، وألّف فيه المؤلفات، وانتشر المذهب وصار له أتباع من ذلك اليوم وحتى يومنا هذا. هذه هي المذاهب الأربعة، ولكن هل كان بعضُهم يضلل بعضًا ؟، حاشى وكلا، بل كلهم متآخون ومتحابون ومجتمعون على الحق. سئل الإمام الشافعي فقيل له: هل نصلي خلف من يقلّد مالكًا ؟ فارتعد وقال: ألست أصلي خلف مالك ! فمالك شيخ الشافعي الذي أفاده فوائد كثيرة جمة، فأنكر على هذا الذي قال: إننا نتورع أن نصلي خلف المالكية لأنهم يخالفوننا في أشياء، والخلافات التي بينهم في الصلاة مثلا في الجهر بالبسملة أو التلفظ بالنية، أو في بعض الأشياء اليسيرة القليلة، وكذلك بينه وبين الحنفية خلافات لا تبطل بها الصلاة. |