فالصيام الصحيح هو الذي يزجر صاحبه عن المحرمات: فإذا دعته نفسه إلى شرب خمر رد عليها وقال: كيف أترك الطعام في النهار، وأتناول الخمر في الليل؟! أليس الذي حرّم هذا هو الذي حرم ذاك ؟ كيف أؤمن ببعض الكتاب وأكفر ببعض ؟ وهذا شأن اليهود أنهم كانوا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، قال تعالى: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) [سورة البقرة، الآية: 85]. . وإذا نادته نفسه، وزينت له أن ينظر بعينيه إلى شيء من العورات ؛ كأن ينظر إلى صور عارية في أفلام ونحوها، أو ينظر إلى النساء المتبرجات رجع إلى نفسه وقال: كيف أمتنع عن الحلال الذي حرمه الله -في النهار- كالأكل والشرب ، وآتي شيئا محرما تحريما مؤبدا في آن واحد؟! وهكذا إذا دعته نفسه إلى أن يتناول شيئا من المكاسب المحرمة كرشوة أو ربا أو خديعة في معاملة، أو غش ، أو ما أشبه ذلك رجع إلى نفسه، وقال : لا يمكن أن أجمع بين فعل عبادة وفعل معصية ، فإذا رجع إلى نفسه تاب من فعله وأناب. فهذه أمثلة في أن الصائم صحيح الصيام يستفيد من صيامه في ترك المعاصي؛ سواءً كانت تلك المعاصي محرمة تحريما مؤقتا كالطعام والشراب ، أو تحريما مؤبدا كالخمر والميسر والقمار والدخان والرشوة والغش والربا والزنا والملاهي ونحوها، فإن هذه تحريمها أكيد. فالمسلم يتفكر في أن الذي حرم هذا هو الذي حرم ذاك فيمتنع بصيامه عن كل ما حرم الله عز وجل. هذه من آثار الصيام في زجر الصائمين عن المحرمات التي يقترفها الإنسان بسمعه وبصره وبيده وفرجه وببطنه وبجميع بدنه وبغير ذلك. فإذا كان صومك كذلك فأنت من الذين يستفيدون من صيامهم، ومن الذين يترتب على صيامهم الحسنات، ويترتب عليه المغفرة، فقد أكّد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن مغفرة الذنوب تتحقق بالصوم إيمانا واحتسابا كما في الحديث المشهور: { من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه.. } أخرجه البخاري برقم (38) في الإيمان باب: "صوم رمضان احتسابًا من الإيمان". ومسلم برقم (760) في صلاة المسافرين وقصرها ، باب "الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح". من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. فشرط فيه أن يكون صومه إيمانا واحتسابا ، ولا شك أن معنى الإيمان هو: التصديق بأنه عبادة لله ، فرضه على العباد، وأما الاحتساب فهو: احتساب ثوابه عند الله، وذلك يستدعي مراقبة ربه في كل الأحوال . ذكر بعض العلماء: أن الصيام سر بين العبد وبين ربه، حتى قال بعضهم: إنَّه لا يطلع عليه أحد من البشر أو لا تكتبه الحفظة. فيمكن للصائم أن ينفرد في زاوية من الزوايا أو في مكان خفي، ويتناول المفطرات بحيث لا يراه أحد، ولكن المؤمن الذي يصوم إيمانا واحتسابا ويعبد ربَّه ويعلم أن الله يراقبه، كما قال تعالى: { الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } يعلم بأن ربه يراه حيث كان، فمثل هذا لا يتناول شيئا من المفطرات ولو اختلى بها، ولو كان جائعا فإنه يصبر على الجوع ولا يصبر على غضب ربه. هذا معنى كون الصيام سرا خفيا لا يطلع عليه إلا الله، وهذا معنى كونه إيمانا ، يعني ما حمله على صيامه إلا الإيمان ؛ ترك شهواته إيمانا بالله، إيمانا بأنه هو الذي فرضه، وإيمانا بأنه هو الذي حرم عليه هذه الشهوات وهذه الأشياء. فالصيام الصحيح هو الذي تظهر عليك آثاره، وتحفظه في كل حالاتك، وتتذكره في كل الأوقات ولا تخدشه بشيء من المنقصات. فإذا فعلت ذلك ، فإنَّ صومك يترتب عليه مغفرة الذنوب، كما قال صلى الله عليه وسلم: { غفر له ما تقدم من ذنبه } فلا شك أن هذا العمل الذي هو الصيام لما كانت هذه آثاره كان محببا للنفوس: النفوس الزكية ، النفوس السليمة، النفوس الصحيحة النقية، التي تسعد بهذا الصيام وتزكو وترتقي. وأما النفوس المتطرفة الغاوية فإنها تتثاقل هذا الصوم، وتتمنى انقطاعه، وانتهاء أيامه ! لذلك ترى الفرق الكبير بين المؤمن وغيره، المؤمن حقا هو الذي يتمنى بقاء هذا الشهر، وأن تطول أيامه، كما رُوي في الحديث: { لو تعلم أمتي ما في رمضان لتمنت أن تكون السنة كلها رمضان } أخرجه ابن خزيمة، برقم 1886 وذكره ابن الجوزي في الموضوعات 2-188، 189، وفيه جرير بن أيوب البجلي ، وذكره ابن حجر في لسان الميزان (2-101) ، وقال : مشهور بالضعف ، ثم نقل عن أبي نعيم فيه : كان يضع الحديث ، وعن البخاري قوله : منكر الحديث ، وعن النسائي : متروك. . فانظر وفرّق: هناك قوم من السلف الصالح، ومن أولياء الله وأصفيائه سَنَتُهم كلها رمضان؛ حتى قال بعضهم: وقد صمتُ عن لذات دهري كلها ويوم لقاكم ذاك فِطر صيامي وكان بعضهم يصوم، ويكثر من الصوم، ولا يفطر إلا مع المساكين، وإذا منعه أهله أن يفطر مع المساكين لم يتعش تلك الليلة ! وكان بعضهم يطعم أصحابه أنواع الأطعمة ويقف يروحهم وهو صائم. فهؤلاء هم الذين يتمنون أن يطول وقت الصوم، وما يزيدهم رمضان إلا اجتهادا في الطاعة والعبادة عما كانوا عليه في رجب، وفي شعبان وما بعده وفي سائر السنة، فأعمالهم كلها متقاربة. أما من لم تصل حقيقة هذا الصوم إلى نفوسهم ، ولم تتأثر به قلوبهم ، ولم يتربوا التربية السليمة؛ فإنهم يستثقلونه، ويتمنون انقضاءه في أسرع وقت ، وأن تنتهي أيامه، ويفرحون بكل يوم يقطعونه منه، فما هكذا الصوم الصحيح ! بل الصائم المؤمن التقي هو الذي يتمنى بقاء هذه الأيام ، فكثيرًا ما نسمع من بعض ضعفاء النفوس أنه يتمنى أن يذهب رمضان، وإذا ما هلّ هلال شوال فرحوا واستبشروا، كأنهم ألقوا عنهم ثقلا !! ومعلوم أنهم قد فارقوا مواسم الخير، فارقوا الأوقات الشريفة، فارقوا هذه الأيام الغر، وهذه الليالي الزُّهر التي تفتح فيها أبواب الجنان وتغلق فيها أبواب النيران، وتُصفّد فيها الشياطين ومَرَدة الجن، وهي التي بشر الله فيها عباده بالخيرات والمسرات، وما علم هؤلاء الفارغون اللاهون أنَّهم يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير. فنحن نوصي إخواننا أن يقيسوا أنفسهم، وينظروا مدى تأثرهم بهذه العبادة، فإذا رأوا أن نفوسهم قد ألفتها، وقد أحبتها، وأنهم قد استفادوا منها فائدة مستمرة في ليلهم ونهارهم، وفي شهرهم وشهورهم، فإن ذلك دليل على حسن آثاره على هذا العبد، وإذا لم يتأثروا، بل رجعوا بعد رمضان إلى تفريطهم وإهمالهم!! رجعوا إلى المعاصي والذنوب التي كانوا يقترفونها قبل رمضان؛ فإن هؤلاء لم يستفيدوا من صيامهم، ويوشك أن يكون صومهم مردودًا عليهم. ولهذا كان السلف رحمهم الله يهتمون اهتماما كبيرا في قبول صيامهم؛ فقد اشتهر عنهم أنهم كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يقبله منهم ، يحرصون على العمل فيعملونه ، فإذا ما عملوه وأتموه، وقع عليهم الهمّ، هل قبل منهم أو لم يقبل منهم؟! ورأى بعضهم قوما يضحكون في يوم عيد، فقال : إن كان هؤلاء من المقبولين ، فما هذا فعل الشاكرين، وإن كانوا من المردودين ، فما هذا فعل الخائفين. |