خامسا : موته صلى الله عليه وسلم كغيره من الأنبياء والرسل قال الله تعالى: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } وقال تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } . ثم إن المسلمين يدينون جميعا بأن الأنبياء قبل قديما قد ماتوا، وانقضت أعمارهم التي كتب الله لهم في الدنيا، وأصبحوا في عالم البرزخ، وحيث ورد في النصوص ما يقتضي حياة الشهداء، كقوله تعالى: { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } . فإن الأنبياء أولى بهذه الحياة، ومعلوم أن الشهداء قد خرجوا من هذه الحياة الدنيا، وقد قسمت أموالهم بين الورثة، وحلت نساؤهم لغيرهم، فكان ذلك أوضح دليل على موتهم ، ولكن الله تعالى نهى أن نقول لهم أموات في قوله -عز وجل- { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ } . وهذه الحياة لا نعلم كيفيتها إلا أنا نتحقق أن أرواحهم خرجت من أبدانهم، وأن أعمارهم انقضت، وأعمالهم قد ختمت، وقد فسرت حياتهم في الحديث الصحيح بأن أرواحهم جعلت في أجواف طير خضر تعلق في شجر الجنة رواه مسلم: برقم (1887)، في الإمارة، باب "بيان أن أرواهح الشهداء في الجنة... إلخ " عن ابن مسعود رضي الله عنه. . وهذا يحقق أنها قد فارقت أبدانهم، وإنما تميزوا بهذه الحياة الخاصة. ومعلوم أن الأنبياء والرسل أولى بهذه الحياة وبكل حال فإنها لا تمكنهم من إجابة من دعاهم، أو إعطاء من سألهم، فنحن نعتقد أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في حياة برزخية، أكمل من حياة الشهداء، وقد تميز بحماية جسده عن البلى، كما ثبت في سنن أبي داود عن أوس بن أوس عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: { إن من خير أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا من الصلاة علي فيه، فإن صلاتكم معروضة علي قالوا: يا رسول الله، كيف تعرض عليك وقد أرمت؟ قال: الله حرم على الأرض أن تأكل أجسام الأنبياء } رواه أبو داود برقم: (1047)، في الصلاة، باب "فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة". وهذا أوضح دليل على أن روحه قد خرجت من جسده، ورفعت إلى الرفيق الأعلى، كما كانت ذلك آخر طلبه من الدنيا. وكذا قد ورد في الحديث: عن أبي هريرة قوله -صلى الله عليه وسلم- { ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام } رواه أبو داود رواه أبو داود برقم: (2041)، في المناسك، باب "زيارة القبور". . وفي كيفية هذا الرد خلاف والله أعلم بذك، وقد روى أبو داود بإسناد حسن: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- { لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم } رواه أبو داود برقم: (2042)، في المناسك، باب "زيارة القبور". . وروى الحافظ الضياء في المختارة، وغيره: عن علي بن الحسين بن علي -رضي الله عنه- أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فيدخل فيها فيدعو، فنهاه وقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي. عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: { لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم } ذكره الهيثمي في الزوائد: 4/3 وعزاه لأبي يعلى ووثق رجاله. . وقال سعيد بن منصور حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: { رآني الحسن بن الحسن بن علي -رضي الله عنهم- عند القبر، فناداني فقال: مالي رأيتك عند القبر؟ ؟فقلت: سلمت على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. ثم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية: في اقتضاء الصراط المستقيم، صفحة: 322، وساقه بإسناده. . فهذه الآثار تدل على شهرة ذلك عند السلف ، وحرصهم على حفظ هذه السنة وتبليغها، ومعنى قوله: { لا تجعلوا بيوتكم قبورا } . أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور التي لا تجوز الصلاة عندها، والمراد صلاة التطوع. وقوله: { ولا تتخذوا قبري عيدا } . نهى -صلى الله عليه وسلم- عن زيارة قبره على وجه مخصوص واجتماع معهود، بحيث يكون كالعيد الذي يتكرر الاجتماع فيه في زمن محدد ويحصل به فرح واغتباط يعود ويتكرر كل عام مرة أو مرارا، ثم أخبرنا بأن صلاتنا تبلغه أين ما كنا، يعني أن ما يناله من الصلاة والسلام حاصل مع القرب والبعد، فلا مزية لمن صلى عليه أو سلم عند القبر، وهذا معنى قول الحسن بن الحسن "ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء". ومن قصد القبر للسلام فقط ، ولم يكن قصده المسجد فقد اتخذه عيدا كما فهم ذلك الحسن بن الحسن رضي الله عنه. وقد كره الإمام مالك - رحمه الله - لأهل المدينة كلما دخل إنسان المسجد أن يأتي القبر النبوي؛ لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك، قال: ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. وقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- وكذا كبار التابعين يصلون في المسجد النبوي خلف الخلفاء الراشدين أغلب الأوقات، ثم ينصرفون بعد السلام، أو يجلسون في قراءة أو عبادة، ولم يحفظ عنهم الإتيان إلى القبر بعد كل صلاة، بل يكتفون بالصلاة والسلام عليه في التشهد، وذلك أفضل من الوقوف أمام القبر لذلك، رغم تمكنهم من الوصول إلى القبر في حياة عائشة وبعدها قبل بناء الحيطان دونه، بعد أن أدخل في توسعة المسجد في عهد الوليد بن عبد الملك وبكل حال فإن الصحابة لم يكونوا يعتادون الصلاة والسلام عليه عند قبره، وإنما كان بعضهم يأتي من خارج إذا قدم من سفر فيسلم عليه ثم ينصرف، كما نقل ذلك عن ابن عمر ولم يحفظ عن غيره من الصحابة، ولم يكن يفعله دائما، فتكرار ذلك كل وقت بدعة ووسيلة إلى تعظيمه أو دعائه مع الله. وقد اتفق الأئمة -رحمهم الله- أن من سلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأراد الدعاء لنفسه لا يستقبل القبر، وإنما يستقبل القبلة التي هي أفضل الجهات وأرجى لقبول الدعاء، وأما الحكاية عن مالك أنه قال للمنصور: ولم تصرف وجهك عنه؟ ... بل استقبله واستشفع به... إلخ فهي حكاية موضوعة مكذوبة عليه كما حقق ذلك العلماء رحمهم الله ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم، صفحة: 395، وغيره. . |