وسئل فضيلة الشيخ: هل يعذب أهل الكبائر في القبر؟ فأجاب: لا شك أن عذاب القبر -الذي هو البرزخ بين الدنيا والآخرة- قد أعد أو أُعد عاجلا، يعني عذابا معجلا، فإذا مات الإنسان وهو مصر على كبائر وذنوب كثيرة، كترك الصلاة، أو ترك الجماعة، أو شرب الخمر، أو قتل النفس، أو ما أشبه ذلك. فإن هذه من الذنوب الكبيرة، فلا يأمن أن يعذب. وقد رويت أحاديث كثيرة فيها وعيد شديد لمن اقترف ذنبا من تلك الذنوب، وعيد في البرزخ، ووعيد في الآخرة لا شك أن القبر أول منازل الآخرة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن القبر أو منازل الآخرة، فإن من نجا منه بعده أيسر منه. وإن لم ينج فما بعده أشد منه". رواه الترمذي برقم (2308) في الزهد، باب "5". وقال: هذا حديث حسن غريب. وابن ماجة برقم (4267) في الزهد، باب "ذكر القبر والبلى". وحسنه الألباني في المشكاة: (232)، وصحيح الجامع: (5499). وحسنة الأرناؤط في تحقيقه على جامع الأصول: 11/165. ولكن ما هي أسباب عذاب القبر؟! إن لعذاب القبر أسباب مجملة وأسباب مفصلة: أما الأسباب المجملة فهي على سببين أساسيين هما: السبب الأول: الشرك بالله والجهل به، وعدم تحقيق التوحيد الخالص. السبب الثاني: إضاعة أوامر الله وارتكاب معاصيه. يقول ابن القيم رحمة الله في كتاب الروح، صفحة: 103: "فإنهم يعذبون على جهلهم، وإضاعتهم لأوامره، وارتكابهم لمعاصيه، فلا يعذب الله روحا عرفته وأحبته وامتثلت أمره، واجتنبت نهيه، ولا بد كانت فيه أبدا، فإن عذاب القبر وعذاب الآخرة أثر غضب الله وسخطه على عبده، فمن أغضب الله وأسخطه في هذه الدار ثم لم يتب ومات على ذلك كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه، فمستقل ومستكثر ومصدق ومكذب" انتهى. أما الأسباب المفصلة فقد وردت في أحاديث ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم نذكر منها: 1- الشرك بالله سبب من أسباب عذاب القبر وهو أعظم الأسباب: وفي ذلك حديث زيد بن ثابت الذي رواه مسلم برقم (2867) في الجنة، باب "عرض مقعد الميت من الجنة.. إلخ". قال: "بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار، على بغلة، ونحن معه، إذ حادث به فكادت لتلقيه. وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة. فقال: من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ فقال رجل: أنا. قال: فمتى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك. فقال: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه.. " الحديث. 2- الكفر والفجور والنفاق من أسباب عذاب القبر: وفي هذا حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الطويل المشهور، قال: "... وإن العبد الكافر... وفي رواهية: الفاجر إذا كان في انقطاع من الدنيا،..." الحديث. وفي حديث أنس "... وأما الكافر والمنافق فيقال له..." الحديث. 3- النميمة وعدم الاستتار من البول من أسباب عذاب القبر: وفي ذلك حديث ابن عباس عند البخاري كما في الفتح: 3/286 - برقم (1378) في الجنائز، باب "عذاب القبر من الغيبة والبول" قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير. ثم قال: بلى أما أحدهما: فكان يسعى بالنميمة، وأما الأخر: فكان لا يستتر من بوله..." الحديث. 4- الغيبة وأذى الناس باللسان من أسباب عذاب القبر: وفي ذلك حديث أبي بكر رضي الله عنه رواه أحمد: 5/35 و 39 وابن ماجة برقم (349) في الطهارة، باب "التشديد في البول" قال: "وأما الآخر فيعذب في الغيبة". صححه الألباني في صحيح الترغيب: 1/66. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه في إحدى رواهياته الذي رواه ابن حبان في صحيحه: 140 - موارد. وصححه الحافظ في الفتح: 1/385. قال: "وكان الآخر يؤذي الناس بلسانه..." الحديث. وأسباب عذاب القبر كثيرة لا يسع المقام للإطالة في ذكرها أكثر من ذلك، ولا بأس من ذكر بعضها سردا دون ذكر الأدلة فمن ذلك: هجر القرآن بعد تعلمه، والنوم عن الصلاة المكتوبة، والكذب، وأكل الربا، والزنا، وأخذ الغلول، وجر الإزار خيلاء، والسرقة، والنياحة على الميت، إلى غير ذلك من أسباب عذاب القبر وبهذا نكتف والمقصود هو الإشارة لا التوسع، ومن أراد التوسع في ذلك فعليه بمراجعة الكتب والمؤلفات في ذلك والله نسأل أن يعيذنا من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، إنه سميع قريب. والله أعلم. . وبكل حال فإن عذاب القبر يناله العصاة المصرون على الكبائر، كما يناله الكفار والمنافقون ونحوهم. وما روي في بعض الأحاديث من أنه للمنافق، والكافر، وللمرتاب، ونحو ذلك. فهذا هو العذاب الغليظ، والعذاب المستمر لهؤلاء، ويكون للذين ماتوا وهم مصرون على الكبائر، ويلزمون بقدرها، كما أنهم يدخلون النار بقدر سيئاتهم وكبائرهم حتى تمحص، ثم يخرجون من النار بعد ما تمحص. فكذلك يكون هذا العذاب في البرزخ تمحيصا وتكفيرا لما اقترفوه من سيئات. |