أول ما يصل المحرم مكة يستحب له أن يغتسل قبل دخولها لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك. ثم يدخل المسجد الحرام من باب بني شيبة فهو الأفضل ويجوز أن يدخل من جميع الجهات. فإذا أراد الدخول إلى المسجد الحرام استحب له أن يقدم رجله اليمنى، ويقول: بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، اللهم افتح لي أبواب رحمتك . وهذا الذكر يقال عند دخول المسجد الحرام وسائر المساجد ولم يثبت لدخول المسجد الحرام ذكر خاص. أول ما يبتدئ به المحرم هو الطواف وهو تحية مكة فإن كان معتمرا أو متمتعا بالعمرة إلى الحج كان طوافه (طواف عمرة) ، وإن كان قارنا أو مفردا فهو (طواف قدوم) ، إذا وصل المحرم بالعمرة الكعبة قطع التلبية قبل أن يشرع في الطواف لأنه شرع في أسباب التحلل. أما القارن والمفرد فإنهما يستمران في التلبية حتى رمي جمرة العقبة يوم العيد عندها تقطع التلبية. وقد كان المشركون قبل الإسلام يأتون إلى هذا البيت، وكان من تعظيمهم له أنهم لا يطوفون بالثياب التي عصوا الله فيها ، فإما أن يستعيروا ثيابا من أهل مكة الذين هم أهل الحرم وإما أن يطوف أحدهم في ثيابه القديمة ثم يلقيها ولا ينتفع بها، وإما أن يطوفوا وهم عراة حتى لا يطوفوا بثياب فيها معصية، هكذا زعموا ! وهذا من الجهل الذي نهى عنه الإسلام، وأنكره، وأمر بأن يُطاف بالثياب التي تستر الإنسان في صلاته وعند طوافه، قال الله تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } (سورة الأعراف ، الآية:31) ومن الزينة اللباس. وقد أمر الله تعالى بالطواف في قوله تعالى : { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (سورة الحج ، الآية:29) . وفي قوله تعالى: { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } (سورة الحج ، الآية:26) . والطواف عبادة خاصة بمكة وهي من أشرف وأفضل القربات التي يتقرب بها المسلم لله وحده، ولا يصح الطواف في غير مكة بل وليس في الأرض موضع يُطاف به سوى البيت العتيق فلا يجوز أن يُطاف بأي بقعة في الأرض، فلا يُطاف حول قبر أو مسجد أو صخرة أو غير ذلك. والطائف بالبيت لا يدعو الكعبة ولكنه يدعو ربها امتثالا لقول الله تعالى: { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ } (سورة قريش ، الآية :3) فلم يقل : فليعبدوا البيت ؛ بل جعل العبادة لرب البيت . والطواف بالبيت يجوز في كل حال وفي كل وقت، وهو عبادة مستقلة، كما أن الاعتكاف والصلاة فيه عبادة فاضلة. فلذلك يجوز لك أن تقصد البيت وأن تقصد الكعبة بدون إحرام، قصدك أن تطوف ولو لم تكن محرما، فحيث إن الطواف بالبيت عبادة من العبادات، فإنه يصح أن يُقْصَدَ لكي يصلى فيه، بل ويجوز أن تُشدّ إليه الرحال ولو مسيرة ألف أو ألفي كيلو أو عشرة آلاف كيلو مترا، ليس قصدك إلا أن تصلي أو تطوف بهذا البيت كما أنه يقصد لأداء مناسك الحج أو العمرة. والطواف بالبيت كما قلنا عبادة من أشرف وأفضل القربات، يتقرب بها المحرم وغير المحرم، ولكن للمحرم ركن، فالطواف بالبيت ركن من أركان العمرة، وركن من أركان الحج، فالقادم إلى مكة بنية الحج يطوف بالبيت طواف القدوم إذا كان قارنا أو مفردا، و كذلك يطوف طواف الإفاضة الذي هو من أعمال يوم النحر، والمذكور في قوله تعالى: { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (سورة الحج ، الآية:29) وكذلك يطوفون طواف الوداع عند مبارحتهم مكة بعد انتهاء أعمال الحج ، فيكون طواف الوداع آخر عهدهم بالبيت . وفي الطواف يستحضر العبد أنه تعظيم لله، ليس بتعظيم للكعبة ولا لتلك البناية المخلوقة! إنما هو تعظيم لله تعالى، فالكعبة بيتٌ أمر الله ببنائه، فأمر إبراهيم عليه السلام أن يبنيه، وكذلك جدده من بعده، وأضافه الله إلى نفسه في قوله تعالى: { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } جعله بيتا له، ولحرمة هذا البيت أمر المسلم بأن يطوف به، تعظيما لربه الذي أمر بذلك. وهذا الطواف يشتمل على ذكر ودعاء وقراءة، ولا يصحُّ فيه غير ذلك، إلا أن الله أباح فيه الكلام، فلا يتكلم حال الطواف إلا بخير، فقد ورد في الحديث: { الطواف حول البيت مثل الصلاة، إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فيه فلا يتكلمن إلا بخير } . لذلك يشترط في الطواف الطهارة كما تشترط للصلاة ، ويشترط له ستر العورة، كاشتراطها للصلاة أو نحو ذلك. ويبدأ الطواف بمحاذاة الحجر الأسود، فإذا قدر المسلم على استلامه فإنه يقبِّله، فيضع شفتيه عليه من غير تصويت ، فإن لم يستطع، لمسه بيده اليمنى وقبّلها ، وإن لم يستطع لمسه بمحجن أو عصا، وقبّل رأس المحجن أو العصا ، وإن لم يستطع ذلك كله اكتفى بالإشارة إليه - و لو من بعيد - وكبّر ومضى . ويُشرع للحاج ألا يزاحم الحجاج من أجل تقبيل الحجر الأسود؛ بل إنْ وجد فرجة واسعة، استلم، وإلا مضى، لأنه قد يُشِقُّ على غيره في هذه المزاحمة ، ويكلف نفسه ، وقد يزاحم من لا تحل مزاحمته : كالنساء، وما أشبه ذلك. وإذا ابتدأ الطواف فإنه يجعل البيت عن يساره، مبتدءا من الحجر الأسود -كما قلنا- ويبدأ بالاستدارة حول الكعبة وراء الحِجْر. والحِجْر هو: البناية كنصف الدائرة التي يمر بها في جهة الشمال ويطوف من ورائها، ويحذر أن يطوف من دونها، كما يفعله بعض الجهلة، وذلك لأن هذا الحِجْر فيه جزء من البيت لأن قريشا حين جددوه، قصرت بهم النفقة، فأخرجوا جزءا من البيت نحو ستة أو سبعة أذرع من جهة الشمال، فلهذا جعل هذا الحِجْر مكملا له ليحصل الطواف بالبيت كله، لا ببعضه، فمن طاف في داخل الحِجْر لم يطف بالبيت كله، إنما طاف ببعضه. فإذا وصل إلى الركن اليماني الذي هو الزاوية الغربية الجنوبية، فإن استطاع أن يستلمه بأن يضع يده عليه مجرد وضع ، ثم يرفعها فعل ذلك، ولا يقبله ولا يمسح بيده زاويته ولا يقبلها ولا يمسح بها وجهه ولا غير ذلك مما يقصد به التبرك ، فإن كل ذلك من البدع، وإنما جاءت السنة بوضع اليد على الركن اليماني وبتقبيل الحجر الأسود فقط ، فإن لم يستطع وضع يده كما ذكرنا ، فإنه يمضي ولا يشير إليه ، وهكذا بقية زاويا الكعبة لا يُسْتَلَمْ شيء منها. ذكرنا أن الطواف عبادة لله وحده وليست تعظيما للكعبة ولا أستارها، ولا أركانها، فَيُنْكَرُ على من يفعل في هذا الطواف ما لا يجوز فعله، ومن ذلك أن بعضهم يتمسح بجدار الحِجْر ، فكلما مرّ عليه مسحه، ومسح بذلك وجهه وصدره ، وهذا بلا شك خطأ، ويجب أن يُنْصَحَ الذين يفعلون مثل هذه الأخطاء. وهكذا الذين يلصقون صدورهم على جدران الكعبة يتبركون بذلك ، أو يمسحون بأيديهم الكسوة ويمسحون بها وجوههم ، فهذا كله لا أصل له، فلم يُشرع التبرك بكسوتها، ولا بحجارتها، ولا بالحِجْرِ ولا بغير ذلك. وهكذا أجزاء بقية الكعبة كمقام إبراهيم والصفا والمروة وزمزم وجدرانها، وبقية جدران المسجد الحرام فلا يجوز التمسح بشيء من ذلك، ولم يُشرع إلا تقبيل الحجر الأسود ووضع اليد اليمنى على الركن اليماني . وهكذا الحجرة النبوية بالمدينة المنورة والمنبر النبوي ، وجدران المسجد النبوي وغير ذلك، فلا يجوز التمسح بشيء من ذلك، فإن التمسح بشيء من ذلك يعتبر تعظيما له ! وهذا التعظيم قد يؤدِّي إلى نقص التوحيد، فإنه نوع من الإشراك. |