والحَسَنُ المعْرُوفُ طُرْقًا وغَدَتْ رِجَالُهُ لا كالصَّحِيْحِ اشْتهـرتْ الحديث الحسن قوله: (والحسن المعروف طرقا ) هنا عرَّف الحسن. يقول في تعريف الحديث الحسن: أنه ما غدت رجاله اشتهرت، لكنه نزل عن درجة الصحيح، وعرَّفه بأنه معروفة طرقه يعني أن أسانيده معروفة، وأن رجاله موثوقون، وأنه متصل، إلا أن رجاله وحملته ليسوا في الشهرة كرجال الصحيح، بل أقل منهم شهرة، فهو يُقبل ويُعمل به، ولكن منزلته دون منزلة الصحيح، لنزول درجة رجاله، فمن المعلوم أن رجال الحديث يتفاوتون في الثقة والحفظ، فمنهم: حفَّاظ نقَّاد، ومنهم: حفَّاظ يقعون في شيء من الوهم. وقد ذكر مسلم في مقدمة صحيحه أمثلة من هؤلاء وهؤلاء، فمثل للثقات العدول: بإسماعيل بن أبي خالد ومنصور بن المعتمر وسليمان الأعمش، ومثلهم كثير كمالك بن أنس وابن أبي ذئب وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وشعبة بن الحجاج وأبي إسحاق السبيعي عمرو بن عبد الله الهمداني أبو إسحاق السبيعي، ثقة مكثر عابد مشهور بالتدليس، وقد ذكره ابن حجر في المرتبة الثالثة من مراتب المدلسين وأمثالهم، فهؤلاء أئمة وحفاظ وعلماء، يحفظ أحدهم ما سمع غالبا، وقد اشتهروا بالنقل، وصار الناس يرجعون إليهم، وتتلمذ عليهم الخلق الكثير، فمثلا تلامذة الزهري لا يكادون أن يحصوا كثرة لاشتهاره بالحفظ، ومثل تلامذة الأعمش سليمان بن مِهران سليمان بن مهران الأسدي أبو محمد الكوفي الأعمش، ثقة حافظ عارف بالقراءة ورع لكنه يدلس (التقريب 414) أحد الحفاظ المشهورين كثيرون لاشتهاره فيما بينهم بالحفظ، وكذلك الذين اشتهروا بقوة الحفظ، كما ذكرنا أن الشعبي عامر بن شراحيل يقول: "ما كتبت سوداء في بيضاء"، لقوة حفظه مع كثرة ما روى، فهو من الحفَّاظ المشهورين، فإذا جاءنا في رجال الحديث من هؤلاء الأئمة اعتبرناه من الصحيح، سواء كانوا من أهل العراق كشعبة والثوري والسبيعي ونحوهم، أو من أهل الشام كالأوزاعي، أو من أهل مصر كالليث، أو من أهل مكة كابن عيينة وعطاء بن أبي رباح، أو من أهل المدينة كالزهري ومالك وابن أبي ذئب ونحوهم، فنقول: هؤلاء رجال الصحيح، فمن نزل عن مرتبتهم وإن كان يشمله اسم الصدق والحفظ وكثرة الرواية، لكن يقع منه خطأ، وينسى أحيانا فهو الذي روايته في مرتبة الحسن. فمثلا أبو صالح السمان أحد الحفاظ من تلاميذ أبي هريرة نقله يعتبر في درجة الصحيح، وتلميذه ابنه سهيل سهيل بن أبي صالح ذكوان السمان أبو يزيد المدني صدوق تغير حفظه بآخره روى له البخاري مقرونا وتعليقا. (التقريب 421). كثير الرواية عن أبيه، لكنه يقع في أخطاء؛ ولأجل هذا احتج به مسلم دون البخاري، فروايته وحده تعتبر في مرتبة الحسن، وكذلك يمثل بسعيد بن أبي عَروبة سعيد بن أبي عروبة مهران اليشكري مولاهم، أبو النضر البصري، ثقة حافظ، كثير التدليس واختلط، وكان من أثبت الناس في قتادة (التقريب 384). وعطاء بن السائب عطاء بن السائب أبو محمد ويقال أبو السائب الثقفي الكوفي صدوق اختلط (التقريب678). وليث بن أبي سليم ليث بن أبي سليم أبو بكر القرشي مولاهم الكوفي، قال الذهبي: فيه ضعف يسير من سوء حفظه. قال ابن حجر: صدوق اختلط جداً، ولم يتميز حديثه فترك. (الكاشف للذهبي2/151. التقريب لابن حجر 817-818) ويزيد بن أبي زياد يزيد بن أبي زياد الكوفي ضعيف، كبر فتغير وصار يتلقن وكان شيعيا. (التقريب1075). وأشباههم، هؤلاء يروون أحاديث، ولكن ليسوا في الترتيب في منزلة رجال الصحيح، فيعد تفردهم أو كون الحديث من رواية أحدهم هو الحسن ليس المراد أن أي حديث في سنده من مرَّ ذكره كـ سعيد بن أبي عروبة وعطاء بن السائب وليث بن أبي سليم ويزيد بن أبي زياد وأشباههم يكون سنده حسنا، بل لا بد من دراسة الإسناد والحكم على كل حديث بما يليق، فقد يرد أحد هؤلاء في سندٍ ما ويكون الحديث مردوداً. هذا معنى قوله: (وغدت رجاله لا كالصحيح) يعني اشتهرت لا كرجال الحديث الصحيح، بل دون رجال الصحيح في الشهرة. وقد عرفنا أن رجال الحسن يشملهم العدالة والضبط، إلا أن ضبطهم أقل من ضبط رجال الصحيح، وهذا هو الفرق بين الحديث الحسن والحديث الصحيح. معنى قولهم: حسن صحيح: واستشكلوا الجمع بين الحسن والصحيح، كما يفعله الترمذي في قوله: "هذا حديث حسن صحيح"، فما الجواب؟ فإن كونه صحيحا يغني عن كونه حسنا؛ لأن الحسن أنزل من درجة الصحيح، فكيف يكون حسنا صحيحا؟ لماذا لم يكتف بصحيح؟ أو لم يكتفِ بحسن، إن كان أنزل درجة من الصحيح؟ ولم يستعمل هذا غالبا إلا الترمذي، ولكن يظهر أن الترمذي لم يلتزم هذا الاصطلاح، وهو أن الصحيح رجاله هم الموثقون الحفاظ، والحسن رجاله هم الذين دون أولئك في الضبط، إنما أراد بقول: "حسن صحيح" الوصف له بما يقتضي الصحة والعدالة والقبول، فيقول: حديث حسن صحيح، يعني أنه حسن من حيث مخرجه، وصحيح من حيث أصله، كأنه يصفه بما يؤكد قبوله، هذا هو المتبادر من فعل الترمذي, أما إذا قال: حديث حسن. فإنه كما ذكر أن الحسن هو ما عرف مخرجه واشتهرت رجاله، وروي له طريقان أو أكثر هذا التعريف مأخوذ من كلام الترمذي والخطابي، فإن الترمذي عرف الحديث الحسن بقوله: "...كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذاً ويروى من غير وجهٍ نحو ذلك فهو عندنا حديث حسن" سنن الترمذي 9/456. وعرَّفه الخطابي بقوله: "...والحسن منه ما عرف مخرجه، واشتهر رجاله، وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء، وتستعمله عامة الفقهاء" . معالم السنن 1/11. وأصح ما قيل في تعريف الحسن قول الحافظ ابن حجر: "وخبرُ الآحاد بنقل عدل تام الضبط، متصل السند، غير معلل ولا شاذ هو الصحيح لذاته...فإن خف الضبط فالحسن لذاته" نزهة النظر ص 62. فيكون تعريفه: هو ما اتصل سنده بنقل العدل الذي خف ضبطه من غير شذوذ ولا علة. . أقسام الحديث الحسن ثم يقسّمون الحسن أيضا إلى قسمين: حسنٌ لذاته، وحسنٌ لغيره، كما أن الصحيح ينقسم إلى قسمين: صحيح لذاته، وصحيح لغيره، والحسن لذاته هو: الذي له طريق واحد، ولكن رجاله موثقون، ثم قد يكون الحسن صحيحا وذلك إذا تعددت طرق روايته، أي: روي عن طريقين أو أكثر، ولكن كل منهما رجاله كرجال الحسن، فيكون هذا الطريق حسنا لذاته، وهذا الطريق الثاني حسنا لذاته، وهذا الطريق حسنا لذاته والمدار على الصحابي في الحديث الواحد، فنقول هذا هو الصحيح ولكن لا لذاته بل بالمجموع، ويسمى الصحيح لغيره، يعني أنه صحيح لشواهده ولكثرة طرقه، فإن كثرة الطرق تقويه، وتنقله من قوي إلى أقوى. أما الحسن لغيره فهو: الذي نزل عن درجة الحسن لما كان فردا ، ولكن بمجموع الطرق -وكلها لا تخلو من الضعف- يترقى إلى الحسن لا لذاته بل بالمجموع. المتابعات والشواهد فعندنا مثلا طريق ضعيف، وطريق آخر فيه ضعف، وطريق ثالث فيه ضعف، تجتمع هذه الطرق وتتقوى، ويكون حسنا لا لذاته بل بالمجموع، يعني أنه تقوّى بهذا وبهذا فأصبح حسنا لغيره؛ ولهذا يسمون الطرق متابعات وشواهد المتابع هو: الحديث الذي يشارك فيه رواتُه رواة الحديث الفرد لفظاً ومعنىً أو معنى فقط مع الاتحاد في الصحابي. والشاهد هو: الحديث الذي يشارك فيه رواته رواة الحديث الفرد لفظا ومعنى، أو معنى فقط، مع الاختلاف في الصحابي. (تيسير مصطلح الحديث 141). وهذا هو تعريف الحافظ ابن حجر، انظر: نزهة النظر 77-78. وإن لم يذكرها الناظم فقد ذكرها غيره، والمتابعات تكون في السند والشواهد تكون في المتن. فإذا كان الراوي يوافق غيره كان دليلا على ثقته، وإذا كان ينفرد عن غيره كان دليلا على ضعفه، وتسمى موافقته لغيره متابعة، فتجدهم إذا قرأت ترجمة أحد الرواة يقولون مثلا في الكلام عليه: فلان ضعيف، لا يُتابع على أحاديثه، أو ينفرد عن الثقات بالمنكرات، أو ينفرد بالغرائب عن الثقات. أما الذي يتابع فإنه يدل على حفظه، فعندك مثلا: الزهري له تلاميذ كثيرون، فإذا روى عنه ابن أخيه وهو محمد بن عبد الله حديثا ، ولم يروه غيره قلنا: هذا الحديث غريب، تفرد به ابن أخي الزهري عن عمه، ولو كان عند الزهري ما تركه بقية تلامذته، فدل على ضعف هذا الحديث حيث تفرد به ابن أخي الزهري، فإن وجدناه قد رواه يونس بن يزيد الأيلي أحد تلامذة الزهري أو عقيل بن خالد أحد تلاميذه، أو شعيب بن أبي حمزة أحد تلامذة الزهري أو سفيان بن عيينة أو الثوري أو معمر بن راشد أو من أشبههم عرفنا أنه قد توبع فقلنا: ابن أخي الزهري يتابع، تابعه فلان على حديثه، وتابعه معمر وهكذا . والحاصل أن الحسن لغيره هو: الضعيف الذي تتعدد طرقه. والصحيح لغيره هو: الحسن الذي تتعد طرقه. الضعيف الذي لا ينجبر ثم إن هناك ضعفا لا ينجبر، وهو أن يكون الرواة متهمين بالكذب، مشهورين به، وقد تتعجب من توافق كثير من الروايات التي فيها ضعف، لكن لا غرابة، فإنهم قد يتفقون على الكذب فيجتمع مثلا في مجلس واحد ثلاثة يختلقون حديثا، ويقولون: نرويه عن فلان الثقة المعروف، فيتفرقون وكل منهم يحدِّث به، فيقول مثلا : حدَّثني شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن سالم عن أبيه، فمثلا عبد القدوس بن حبيب عبد القدوس بن حَبيب أبو سعيد الكُلاَعي الشامي، كذبه ابن المبارك، وقال: لأن أقطع الطريق أحب إلي من أن أروي عنه. وقال ابن معين: مطروح الحديث، وقال البخاري: تركوه منكر الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال الذهبي: اتفقوا على ضعفه. (السير للذهبي 8/ 136 ولسان الميزان لابن حجر 4/56). في الشام يقول: حدّثني شعيب، ثم يأتي أحد الكذابين في العراق كعمرو بن جُمَيْع عمرو بن جميع أبو المنذر وقيل: أبو عثمان، كذبه يحيى بن معين، وقال الدار قطني وجماعة: متروك، وقال ابن عدي: كان يتهم بالوضع، وقال البخاري: منكر الحديث. (لسان الميزان 4/413). ويقول: حدثني شعيب، ويأتي آخر في خراسان ويقول: حدثني شعيب، فإذا رأينا أن هذا الحديث قد توافقوا وتتابعوا على روايته عن شعيب تعجبنا حتى ليجزم بعضهم أن شعيبا حدَّث به، وإلا فكيف اتفق عليه راوي العراق وراوي خراسان وراوي الشام ؟. والجواب: أنه لا عجب، فقد يجمعهم مجلس، ويتفقون فيه على اختلاق حديث، ويتفرقون ويروونه، وقد يسرقه بعضهم، كما تجد في تراجم بعض الرواة ذكر السرقة، يقال: فلان يسرق الأحاديث. أي أنه إذا سمع حديثا ضعيفا مرويا من طريق سرقه، وكتبه، ثم حدّث به من طريق ثانٍ، فاختلق له طريقا آخر، فيتعجب الذي يرى هذا مُخَرَّجا من طريق، ثم يراه مُخَرَّجا من طريق آخر، ويقول: كيف توافقت الرواة؟ يعني هذا: طريق كلهم مصريون، وله إسناد من طريق كلهم عراقيون، فنقول: لا غرابة في ذلك، فقد يكون الذي اختلقه لأول مرة هو المصري، ثم لما سمع به العراقي ركَّب له إسنادا ليدَّعي أنه قوي. وقد يكتب بعضهم إلى بعض ممن يَروون الكذب، أو يرون جواز الكذب أو نحو ذلك، فإذًا قد يقع في روايات الضعفاء توافق، فلا تكون متابعة الضعيف شديد الضعف رافعة لضعف الحديث، ولا مسببة لنقله إلى مرتبة الحسن لغيره، وإنما الذي يرتقي إلى مرتبة الحسن إذا كان الضعف فيه ينجبر، وذلك إذا كان الراوي غير متهم بالكذب. أما الضعف الذي لا ينجبر فلا يعني ما هو ضعيف بسبب رواة متهمين بالكذب، وقد عرف أن الراوي يطعن فيه فيُقال: كذَّاب. أو يُقال: متهم بالكذب، أو ما أشبه ذلك. فإذا كان الراوي غير متهم بالكذب، فضعفه ينجبر إذا روي عن طريق أُخرى، وأحاديث الكذَّابين تُتَجنَّب. وقد كُتبت في ذلك مؤلفات كثيرة ككتب الموضوعات، والقصد من كتابتها التحذير منها لكي يعرفها الناس ويحذروها ويتجنبوا روايتها، أو يتجنبوا تصديقها والعمل بها، فمنها: (كتاب الموضوعات) في أربعة مجلدات لابن الجوزي يرويها بالأسانيد، ويقتصر على الأحاديث الموضوعة، وإن كان قد تساهل وأدخل في ذلك أشياء من الأحاديث التي فيها ضعف لا يصل إلى الوضع قال ابن حجر: "وقد يعتمد [أي ابن الجوزي] على غيره من الأئمة في الحكم على بعض الأحاديث بتفرد بعض الرواة الساقطين بها، ويكون كلامهم محمولا على قيد أن تفرده إنما هو من ذلك الوجه، ويكون المتن قد روي من وجه آخر لم يطلع هو عليه، أو لم يستحضره حالة التصنيف، فدخل عليه الدخيل من هذه الجهة وغيرها، فذكر في كتابه الحديث المنكر والضعيف الذي يحتمل في الترغيب والترهيب وقليل من الأحاديث الحسان..." وقال: "نعم أكثر الكتاب موضوع" انظر النكت على ابن الصلاح ص 848-850. وقد اختصر كتاب ابن الجوزي الموضوعات السيوطي، في مصنف أسماه: اللآليء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، وتعقب ابن الجوزي فيما ليس بموضوع، وأضاف روايات من الموضوعات التي لم يذكرها ابن الجوزي. وهو مطبوع. ومنها: (تنزيه الشريعة المرفوعة) واسمه كاملا: تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة، وقد لخص ابن عراق فيه موضوعات ابن الجوزي، وما زاده السيوطي وغيره، وذكر فيه أسماء الكذابين، وهو كتاب نافع أتى فيه بتعقبات فائقة وهو مطبوع، وسيأتي الكلام عن الحديث الموضوع. ص 115. لابن عَرَّاق في مجلدين، وهو من أوفى ما كتب في الموضوعات، وإذا كان رواة المتابعات كلها من المبتدعة، فإن الضعيف لا يترقى إلى الحسن؛ لأن كثيرا من المبتدعة يتساهلون في رواية الموضوع سيما إن كانت الأحاديث تؤيد بدعتهم، أو يَرَوْنَ وضع الأحاديث حسبة؛ تقوية لمذاهبهم ومعتقداتهم، وأكثر من يفعل ذلك الرافضة الذين امتلأت مؤلفاتهم بالأكاذيب التي يؤيدون بها مذهبهم. |