ويمتهنون عند أخذها أي: أخذ الجزية ويطال وقوفهم وتجر أيديهم وجوبا؛ لقوله تعالى: { وَهُمْ صَاغِرُونَ } ولا يقبل إرسالها. هذه الآية: { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } تدل على أنهم إن عدلوا للجزية يلتزمون الصغار، الصغار هو الهوان والذل والضعة والاستضعاف والاستكانة؛ إظهار الذل، فلا بد من هذا. فأولا: قول الله تعالى: { عَنْ يَدٍ } لا يقبل إرسالها؛ فلو أرسل الجزية مع خادمه أو مع ولده لم يقبل منه حتى يأتي هو بنفسه، كل واحد منهم يأتي إلى الجابي الذي يجبي الجزية ويسلمها، فلا تقبل من وكيل وكله، ولا من خادم، ولا من عبد، ولا من ولد؛ بل يأتي ويسلمها. أي: كل فرد منهم يسلمها؛ لقوله تعالى: { عَنْ يَدٍ } يعني: يسلمها من يده ليد الجابي، وذلك أظهر لصغارهم وذلهم وتحقير شأنهم، ومعرفتهم برفعة الإسلام ومعرفتهم بآثار الإسلام. كذلك أيضا إذا جاء ليسلمها فلا بد من التزام الصغار، الصغار هو أن يمتهنوا عند بذلها وإعطائها، الامتهان هو الإهانة والإذلال؛ هذا نوع من الصغار، وكذلك إطالة القيام؛ يبقى قائما مدة. يعني: عشر دقائق، ربع ساعة وهو قائم؛ ليشعر أيضا بالهوان في حالة مجيئه لا يسلمها وهو جالس، لا يجلس ويسلمها بل يقوم. وكذلك أيضا تجر أيديهم، يعني: إذا أخذت فلا بد أن يمدوا الأيدي. الجابي يجعل يده قريبة من صدره، وأما أحدهم فإنه يمد يده، يمد يده طويلا حتى يكون ذلك تحقيقا لقوله: { عَنْ يَدٍ } يعني: عن يد؛ فيمتهنون عند أخذها ويطال وقوفهم كربع ساعة مثلا أو عشر دقائق للإهانة، وتُجر أيديهم. أي: يمدونها عند التسليم. كل ذلك تحقيق للآية: { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } فلم يقل: يرسلوها، { عَنْ يَدٍ } أي: لا بواسطة، { وَهُمْ صَاغِرُونَ } أي: ذليلون مهينون، فإهانتهم هذه تكون سببا في معرفتهم بأن الإسلام يعلو ولا يعلى، وأن تعاليم الإسلام وآثاره وأحكامه؛ أنها أسمى وأعلى وأرفع من دياناتهم التي عليها. هذا معنى أخذ الجزية عنهم. ثم هناك، يقول هنا: ومن تبعهم. لا تعقد إلا للمجوسي وأهل الكتابين ومن تبعهم. الذين تبعوهم يعني: حتى ولو كانوا من غيرهم كالعرب الذين تدينوا بدين النصرانية. في زمن عمر كان هناك نصارى بني تغلب، كثير من العرب في أطراف البلاد التي فيها نصارى دانوا بدينهم حتى في قرب بلاد العرب؛ فبنو بكر في أدنى العراق كثر فيهم النصرانيون، وطيء في حدود جبل طيء قرب حائل كثر أيضا فيهم النصارى، وغسان وعاملة ولخم وجذام وتغلب؛ كثروا في الشام وما حول تلك البلاد وتنصروا؛ دخلوا في النصرانية، كثير منهم أضاعوا أنسابهم، وصاروا من جملة النصارى ولم يتمسكوا إلا بالنصرانية، ولم يُمسكوا أنسابهم، وصاروا إنما ينتسبون إلى دياناتهم؛ مسيحي بلغتهم أو نصراني بلغة العرب أو يسوعي بلغتهم أيضا. القبائل الآن حتى من العرب أضاعوا أنسابهم؛ يمنع أن ينسب إلى قبيلة، فهناك مثلا قبائل من غسان منع أن يقول أحدهم: غساني، وقبائل من عنزة يمنع أن يكتب في حفيظته العنزي، وكذلك العازمي أو الشَّمَّري وهكذا، بل يكتب السوري مثلا، اللبناني، الأردني، منعوا من إظهار القبائل. قصد رؤساء الدول بذلك أن تنقطع هذه الأنساب وأن تنمحي، وأن لا يعرف أحدهم من أي قبيلة هو. قد حصل هذا في أول الإسلام؛ وذلك لأن كثيرا من العرب الذين يحفظون أنسابهم نزحوا من بلادهم ونزلوا في تلك البلاد؛ في خراسان التي هي إيران وفي العراق وفي الشام وتفرقوا وضاعت أنسابهم، فصار أحدهم لا يعرف من أي قبيلة مع طول الوقت. إنما يذكر اسمه واسم أبيه واسم جده وينسى ما وراء ذلك، فصار الانتساب إلى الدول أو إلى البلاد فيقال: مثلا الرازي إذا كان من أهل الري والمروزي والبغدادي والسمرقندي وهكذا، ثم كان من جملة الذين تمسكوا بنسبهم في الزمن الأول قبيلة بني تغلب؛ تمسكوا بنسبهم مع أنهم فيما بين النصارى، وصاروا يحافظون على قبائلهم، وكانوا قد دخلوا في دين النصرانية. ولما دان النصارى في تلك البلاد بالجزية فرض عليهم عمر جزية مثل النصارى؛ فامتنعوا وقالوا: لا يمكن ونحن عرب نعامل معاملة العجم، نحن عرب؛ لا يمكن أن ندين بالجزية ولا نلتزم بهذه الجزية التي تأخذونها من العجم، إنما تأخذون منا مثل ما تأخذون من بقية العرب المسلمين. أنتم تأخذون من المسلمين الزكاة خذوا منا مثلهم زكاة، فأما جزية فلا؛ لا نقر بشيء اسمه الجزية. فأراد عمر رضي الله عنه أن يكرههم على الجزية فامتنعوا، ثم إنه لما شدد عليهم وكانوا جموعا كثيرة وكانوا لهم قوة ولهم منعة ولهم عدة وعدد، فانتقلوا وكانوا في أطراف البلاد، أطراف بلاد الجزيرة، وحاولوا أن يدخلوا مع الروم وأن يكونوا من بين الروم وأن يحاربوا المسلمين مع الروم؛ فلما ظهر منهم هذا الأمر جاء بعض المسلمين وأشاروا على عمر أن يضاعف عليهم الزكاة، أن يأخذ منهم الزكاة مضاعفة ويتركهم على ما هم عليه ففعل ذلك عمر ؛ صار يأخذ منهم الزكاة مضاعفة. عندهم أموال وغالب أموالهم من المواشي، فبدل ما يأخذ من المسلم شاة يأخذ منهم شاتين، وإذا وجبت على المسلم بنت مخاض أخذ منهم اثنتين وهكذا، فرضوا بذلك وبقوا على هذا، وصاروا يعاملون معاملة قريبا من معاملة أهل الكتاب إلا أنهم لم يلتزموا بالجزية، يقول فيهم عمر رضي الله عنه: هؤلاء قوم حمقى، رضوا بالفعل ولم يرضوا بالاسم. الحقيقة التي نأخذ منهم أنها هي نوع الجزية، هي الجزية ولو كانت لا تؤخذ من كل منهم، هي مثل الجزية ولكن نسميها زكاة كما نسمي زكاة المسلمين. سميناها بهذا وهي في الحقيقة جزية؛ رضوا بالفعل وهو أنها حقيقة جزية ولم يرضوا بالاسم وهو اسم جزية فأقرهم على هذا. أما لما كان في زمان علي أراد أن يقاتلهم وقال: إنهم لم يتمسكوا من دين النصرانية إلا بشرب الخمر، لم يكونوا يعملون مثل عمل النصارى، وليس عندهم كتب النصارى، ولا أعمال النصارى، ولا كنائس النصارى ولا معابدهم. إنما فقط دخلوا في دين النصرانية وسموا أنفسهم بهذا الاسم، وإلا فالحق أنهم مشركون، ولكن أقرهم؛ لأنهم ذووا نجدة، لما قيل لعمر إنهم أهل قوة وأهل نجدة وأهل شجاعة وإذا تركناهم يدخلون في داخل بلاد النصارى والروم؛ صاروا علينا مع الكفار، فتركهم في منازلهم. كان غالبهم بوادي رُحل، ولكن لهم منازل ينزلون فيهم؛ هكذا ذكر حكمهم كثير من العلماء حيث قالوا: إن بني تغلب يستثنون من النصارى الذين دخلوا في دين النصرانية، يستثنون منهم بنو تغلب خاصة. وأما في هذه الأزمنة فقد ضاعت أنسابهم مثل غيرهم، ولم يبق منهم أحد يدين بدين النصارى أو يتسمى بأنه تغلبي. |