............................................................................... وهكذا يقال في بقية أنواع العبادة، فمن ركع لغير الله فقد أشرك، ومن سجد لغيره فقد أشرك، ومن تواضع لمخلوق حي أو ميت كالتواضع لله في الصلاة كانحناء ونحوه فقد أشرك، وكذلك من استعان بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق فقد أشرك، ومن استعاذ بمخلوق بما لا يقدر عليه إلا الله -تعالى- فقد أشرك، ومن تاب إلى مخلوق أو أناب إليه فقد أشرك؛ وذلك لأنه صرف جزءا من العبادة لذلك المخلوق، و أنواع العبادة كلها لله وحده لا يصلح أن يصرف منها شيء لأية مخلوق. ثم يقول المؤلف: وتمام هذا.. أن تعرف أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا يدعون الصالحين، مثل: الملائكة و عيسى وأمه وعزير وغيرهم من الأولياء. والذين يدعون الملائكة.. مشركو العرب؛ مع أنهم يقولون: إن الملائكة بنات الله. فكانوا يعبدونهم، والدليل قول الله تعالى: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } يعني: الشياطين -أي- الشياطين هي التي أمرتهم بعبادة الملائكة. الملائكة لا يرضون أن يُعبدوا مع الله -تعالى- فأخبر تعالى بأنهم قد عبدوا الملائكة. وكذلك حكى عن الملائكة أنهم قالوا : { وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا } والذين يعبدون عيسى هم النصارى؛ فإنهم يدّعون أنه هو الله، قال تعالى: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } وكذلك يدعي بعضهم أنه ابن الله، قال تعالى: { وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } ويدعي بعضهم أن عيسى وأمه إلهان، قال تعالى: { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } دل على أن هناك أقوام يعبدون عيسى ويعبدون أمه مريم الذين يعبدون عزيرا هم اليهود قال تعالى: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } ادعوا فيه أنه ابن الله، جعلوا لله ولدا { وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } نزه الله -تعالى- نفسه عن أن يتخذ ولدا في قوله: { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ } { إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } . وكذلك أيضا كانوا يعبدون كثيرا من الأولياء، ذكروا في اللات التي هي صخرة في الطائف كانوا يعبدونها؛ وذلك لأنها كانت على قبر رجل صالح كان يخدم الحجاج يقدم لهم طعاما يلت لهم السويق -يعني- يخلطه للحجاج، فلما مات دفن تحت تلك الصخرة، فعكفوا حول قبره، ثم ساروا يدعونه، ثم ساروا يعظمون تلك الصخرة التي عنده. قرأ بعض القراء من السلف "اللاتّ" بتشديد التاء -يعني- الذي يلت السويق -أي- هو نوع من الدقيق مطبوخ. وكذلك قد يعبد النصارى واليهود كثيرا من الأولياء، في حديث أم سلمة يقول -صلى الله عليه وسلم- { أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله } دل ذلك على أن هؤلاء يعبدونهم. يبنون على قبورهم، ويصورون صورهم، وأن هذا هو أصل الشرك، أول ما حدث في قوم نوح كان فيهم رجال صالحون، وهم المذكورون في قوله تعالى: { وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } لما ماتوا صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم، فكفروا بهذا؛ مع إقرارهم بأن الله -تعالى- هو الخالق الرازق المدبر. فالمشركون الأولون كفروا بعبادة الملائكة، وبعبادة الأولياء والصالحين و عيسى و عزير و مريم وغيرهم من الأولياء، وحلت أموالهم ودماؤهم، وخرجوا من الإسلام؛ حيث إنهم أشركوا بالله؛ حيث جعلوا عبادتهم مشتركة: بعضها لله وبعضها لغيره، وما نفعهم إقرارهم بأن الله -تعالى- هو الخالق الرازق؛ بل صار حجة عليهم، يحتج الله عليهم بأنهم يعرفونه، يعرفون أنه ربهم، وأنه الذي خلق، وأنه الذي يرزق، وأنه الذي يدبر؛ فاحتج عليهم بذلك. وكثيرا ما يذكر الله -تعالى- الآيات الدالة على عظمته، ثم ينبه على أنه المستحق للإلهية دون أن يصرف منها شيء لغيره، مثل قول الله تعالى: { أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا } ختم الله الآية بقوله: { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } يعني: أتجعلون معه إلها؟ هل إله مع الله؟ هم يعترفون بما تضمنته هذه الآيات، ذكر الله في هذه الآية خمس آيات أو ست آيات يختم كل آية بقوله: { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } إلى آخره... كأنهم يعترفون بأن هذا كله لله، { أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا } يعترفون أن الله الذي جعل الأرض قرار، { وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا } يعترفون بأن ذلك من الله وحده؛ ولكن يجعلون معه إلها؛ فلذلك يقول: { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } أتجعلون مع الله إلها يستحق أن يؤله كما يؤله الله؟! فهم يفرقون بين كون الله خالقا، وكونه مألوها، ويعترفون بأن الله خالق؛ ولكن الإلهية يجعلونها مشتركة: بعضها لله وبعضها لغيره؛ فلذلك صاروا مشركين، وسُلبوا معرفتهم في قوله { بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } إلى آخرها...، يعني: أنكم لو تذكرتم وتفكرتم لعلمتم أنكم مخصومون، وأن الحجة قد قامت عليكم، فكيف تعترفون بأن هذا لله وحده ليس معه إله، هو الذي جعل الأرض قرارا { وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا } إلى آخره...، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وغير ذلك؛ ومع ذلك تجعلون معه آلهة أخرى، تصرفون لها شيئا من التأله؟!!. فنقول لعبّاد القبور: أنتم تعترفون بأن الله تعالى هو الإله الحق -يعني- الذي يستحق الإلهية أو الربوبية؛ ومع ذلك لا تدينون له بحق الألوهية؛ بل تصرفون شيئا منها للمخلوقات، تجعلون منها لغير الله نصيبا؛ فذلك هو الذي أوقعكم في الشرك، صرتم بذلك مشركين. فعلى هذا.. من يقول: إننا مسلمون، نقول: إن حقيقة الإسلام هو: أن تدينوا لله -تعالى- بالتوحيد. وإذا قالوا: نحن نشهد الشهادتين. قلنا: إن تمام الشهادتين.. أن تعملوا بهما، فكونكم تقرون بالشهادتين؛ ومع ذلك لا تطبقون معناهما لا يصير ذلك صدقا. وإذا قالوا: نحن نؤمن بالبعث. قلنا: إذا آمنتم به فاعملوا عملا صالحا ينجيكم به الله -تعالى- يوم البعث وهو الإخلاص -إخلاص العبادة لله وحده-. وإذا قالوا: إننا نعرف الله، ونشهد له بأنه ربنا وخالقنا. فالجواب: علم ذلك لا يفيدكم؛ حتى تخلصوا العبادة لله وحده. وإذا قالوا: إن الكفار امتنعوا من قول: لا إله إلا الله. محمد رسول الله، ونحن نقولها، وهي تعصم الدم والمال. فالجواب: إنها لا تعصم إلا من طبقها؛ من عمل بها حقًا، وتيقن بمدلولها فهذا هو الذي تعصم دمه وماله، وأما الذي يقولها بلسانه ولكن لا يطبقها؛ بل يجعل مع الله آلهة أخرى فإنها لا تعصم ماله ودمه. يقول الشيخ -رحمه الله- في رسالة له في كتاب "التوحيد": إنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال؛ بل ولا معرفة معناها مع نقضها؛ بل ولا الإقرار بذلك؛ بل ولا كونه لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له؛ حتى يضيف إلى ذلك.. الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو تردد لا يحرم ماله ودمه. فنتواصى بأن نحرص على تحقيق التوحيد، الذي هو إخلاص العبادة لله وحده بجميع أنواعها، وأدلة ذلك في كتاب "التوحيد الذي هو حق الله على العبيد"، وكذلك في كتابه كتاب المؤلف "ثلاثة الأصول"، وغير ذلك من المؤلفات. بقية البحث -إن شاء الله- في الأيام القادمة. |