واجب على المسلم بصفته مؤمنًا ومسلمًا أن يتعلم الأسباب التي تجعله يخضع لله، ويخشع له ويتواضع بين يديه ويؤمن به ويتوكل عليه ويثني عليه الخير كله ويذكره ويشكره ولا يكفره، ويبتعد عن أسباب سخطه ما هي الأسباب التي تجعلك هكذا؟ نعرف أن الكثير والكثير يتسمون بأنهم مسلمون؛ ولكن نجد أنهم لا يتذكرون إذا ذكروا ولا يتعظون إذا وعظوا، ولا ينزجرون عن النقائص التي هم فيها، ولا يستعدون للأعمال الصالحة التي خلقوا لها وأمروا بها ولا يقلعون عن المعاصي والمحرمات ما سبب ذلك؟ ونجد أيضا أن الكثير من عباد الله تعالى قد رزقهم الله ذلا وتواضعا وقلوبا لينة؛ يخشعون لله سبحانه ويخضعون له ويتواضعون بين يديه، ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا، وإذا تتلى عليهم آيته خروا سجدا وبكيا. يبكون خوفا من الله سبحانه. يرجون رحمته ويخافون عذابه { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } ما أسباب ذلك؟ لا شك أن القلوب القاسية بعيدة عن الخشية وبعيدة عن الإنابة؛ فعليك أن تعرف أسباب القسوة حتى تتجنبها، وأسباب لين القلوب ورقتها حتى تتعزز بها وتكثر منها لتكون من عباد الله الخاشعين الخاضعين المتواضعين فنقول: إن الله سبحانه وتعالى أقام الأدلة والبراهين على وجوده، وعلى قدرته وعلى كمال تصرفه، وعلى كمال إنعامه، وعلى أنه وحده هو الذي تفرد بالبقاء والدوام وهو الذي تفرد بالخلق والإيجاد، وهو الذي تفرد برزق العباد. أقام الأدلة على ذلك ونصب البراهين؛ ولكن لا يفكر فيها ولا ينتفع بها إلا أولو الألباب. كثيرا ما يذكر الله تعالى الآيات والأدلة ثم يقول: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } وذلك لأن أهل العقول الصحيحة الذين استعملوا عقولهم فيما ينفعهم في الدار الآخرة نظروا في آيات الله؛ فاستدلوا بها على كمال عظمته وكمال جلاله وكبريائه؛ فكانوا لذلك أهل الخشوع وأهل الخشية وأهل الإنابة، رقت قلوبهم ودمعت أعينهم واقشعرت جلودهم، وأقبلوا بقلوبهم إلى طاعة الله سبحانه، وعظم قدر ربهم في قلوبهم فصاروا يتأثرون بكل كلمة إذا قرئت عليهم آية أو سورة ولو قصيرة زادت إيمانهم، وزادت يقينهم وزادت أعمالهم فازدادوا بها قربة، وانصقلت قلوبهم وزال ما فيها من الوهن وما فيها من القسوة؛ فرقت لذكر الله تعالى، وأنابت إليه فتراهم كلما سمعوا آيات الله أو وعظوا بوعده أو بوعيده. رأيت هذا باكيا وهذا حزينا وهذا خاشعا وهذا خائفا. لا شك أن ذلك لرقة في قلوبهم، وأن ذلك لمعرفة رزقهم الله تعالى إياها فكانوا بذلك أهل الله وأولياءه، ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف. حرصوا على معرفة الله سبحانه وتعالى بآياته وبمخلوقاته وبدلالاته التي نصبها على عظمته وجلاله فكانوا دائمًا يتفكرون فيها. ورد في حديثٍ في الصحيح عن عائشة { أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استيقظ مرة في آخر الليل أو في نصف الليل وجعل يبكي كثيرا وجعل يبكي حتى رقت له عائشة فقالت: بأبي أنت وأمي أليس الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فأخبرها بأن الله تعالى أنزل عليه آيات من آخر سورة آل عمران قول الله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ } إلى آخر السورة فجعل يكررها ويرددها } في بعض الروايات أنه قال: { ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها } . هكذا ذكر ذلك ابن كثير في تفسير هذه الآيات فقيل لبعض الرواة: كيف يخرج الإنسان من هذا الويل فقال: أن يقرأهن وهو يعقلهن أي كلما مررت بها وقرأتها أو سمعتها فأحضر قلبك ولبك وتأمل فيها وتعقلها ولو لم يحصل لك ما حصل للنبي عليه الصلاة والسلام من الرقة والبكاء، وكذلك ما حصل للكثير من عباد الله أو أوليائه. على هذا. أسباب رقة القلب. أولا: تدبر كلام الله تعالى وتعقل معانيه كلمة كلمة؛ فمن تدبر ذلك وأكثر منه رجي بذلك أن ينفعه الله وأن يرق قلبه، وذلك لما في القرآن من المواعظ ومن الوقائع ومن العقوبات، ومن الحوادث التي أوقعها بمن خرج عن طاعته سبحانه، وكذلك أيضا ما فيه من الوعد لمن أطاعه، وما فيه من الوعيد لمن خرج عن طاعته ولمن عصاه في الدار الآخرة، وكذلك في الدار الدنيا. فمن تأمل القرآن تبين له طريق الحق والصواب. كذلك أيضا من أسباب رقة القلب التفكر في آيات الله الكونية التي بين يدي الإنسان وخلفه، بكل ما بين يديه وفي كل الأشياء حتى لو تفكر في نفسه لعرف أنه مخلوق من مخلوقات الله، وأن الذي خلقه على كل شيء قدير، فالتفكر في آيات الله كثيرا ما يلفت الله تعالى الأنظار إليه. لا شك أنه من الأسباب التي يحصل بها رقة القلب ويحصل بها الخوف من الله. كذلك أيضا من الأسباب تذكر الموت وما بعد الموت. الإنسان العاقل دائما يتذكر نهايته يعرف أنه كما بدأه الله فسوف تنتهي حياته، ولا يبقى على هذه الحياة أحد من البشر. يشاهد أن الكثير والكثير تنقضي أعمارهم، فمنهم من يعمر قليلا ومنهم من يعمر كثيرا ولكن نهايتهم الفناء من هذه الحياة وعدم البقاء عليها، فإذا تفكر في ذلك رق قلبه. إذا تفكر في أنه راحل عن هذه الحياة رق قلبه واستعد لما بعد الموت. كذلك أيضا من الأسباب تذكر الآخرة وما أخبر الله تعالى بما فيها ما أخبر الله فيها من العذاب والثواب من الجنة والنار، من الأهوال التي تكون في يوم القيامة والفزع الأكبر. إذا تفكر في ذلك أيضا صار سببا في رقة قلبه، وصار سببا في دمع عينه وخوفه من الله تعالى. وهكذا أيضا الأسباب التي تحصل بها قسوة القلب التي يحصل معها مع هذه القسوة جفاء وبعد عن الخير وإقبال أو فعل للفساد وللشر هي أيضا كثيرة، وقد أكثر الله تعالى من ذكر تلك القلوب وبين الأسباب التي صدتها عن الخير. فمن ذلك قول الله تعالى عن اليهود: { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } هذا اعتراف منهم { بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا } وقولهم: قلوبنا غلف؛ بل طبع الله عليها، فهذان سببان كون قلوبهم مغلفة وكونها مطبوع عليها، لا شك أن لذلك أسبابا وهو البعد عن الخير وعدم سماعه وعدم التفكر فيه وعدم الاهتمام به. من أسباب الطبع على القلوب؛ يقول الله تعالى عن الكافرين قول الله تعالى: { وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ } . وكذلك الختم في قوله تعالى: { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } الختم أيضا هو مثل الطبع بمعنى أنه جعل عليها غشاوة فكانت تلك الغشاوة لا توصل إليها الحق؛ لا يصل إليها شيء مما ينفعها. لا تصل إليها المواعظ بل عليها هذه الأغطية التي غطتها وختم عليها. هذا أيضا من أسباب الذنوب وهو سبب في عدم الإنابة وعدم التوبة. وكذلك أيضا ذكر الله قسوة القلوب من اليهود في قوله: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } ويقول الله تعالى: { وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } لما أنهم طال عليهم الأمد. أي: عمروا مثلا وهم في لهوهم وسهوهم، وتمادوا في شهواتهم وأعطوا نفوسهم ما تتمناه من الملاهي وما أشبهها؛ مما تميل إليه تلك النفوس الشريرة كانت عاقبة ذلك أن صارت قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة، ومعنى ذلك أنها لا تلين لموعظة ولا تلين لذكر ولا لنصيحة أو تخويف أو ترغيب أو ترهيب بل لا تتأثر بشيء من ذلك قلوب خالية من التقوى فهي خراب بلقع. ومن ذلك أيضا مرض القلوب. القلوب تمرض ومرضها أشد من مرض الأبدان، وذلك لأن الأبدان إذا مرضت أثرت فيها العلاجات والعقاقير ونحوها، وأما القلوب إذا مرضت فإن مرضها لا يعالج بهذه العلاجات الحسية وإنما يعالج بالأدوية الرحمانية علاجها بالتذكير وبالوعظ وبالتخويف ونحوها. ذكروا أن القلوب تمرض مرضين: مرض شهوة ومرض شبهة فقول الله تعالى: { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } هذا مرض الشبهات التي شبهت عليهم الباطل في صورة الحق؛ شبهات كثرت عليهم فصاروا لا يفهمون الحق بسبب تلك الشبهات التي حالت بينهم وبين معرفة الصواب، وما أكثر تلك الشبهات التي يشبهون بها الآن على ضعاف الإيمان. ذكر الله أيضا مرض الشهوة في قوله تعالى: { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } هذا مرض الشهوة أي الشهوة إلى الزنا مثلا هذا مرض في القلب والشهوة إلى الغناء والشهوة إلى المسكرات والمحرمات هذه تسمى أمراضا للقلوب مرضا للقلوب. أي: أنها تصد القلب عن الحق وعن التقبل وعن الانتفاع بالخير فيكون القلب كأنه مريض تدفعه تلك الشهوات إلى هذه المعاصي لعدم سلامته من هذه الأمراض. علاج هذه الأمراض هو بالتوبة وبالأعمال الصالحة وبكثرة ذكر الله تعالى وبدعائه وبالتوبة الصادقة النصوح وما أشبه ذلك، فإذا عولجت بذلك رجي أن تصحو وأن يزول عنها هذا الأثر وهذا المرض. كذلك مما ذكر الله تعالى من أمراض القلوب الران في قوله: { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } والإقفال في قوله تعالى: { أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } ففي هذه الآيات بيان أمراض القلوب ما يصل إليها الران أو الإقفال أو القسوة أو الطبع أو التغليف وما أشبه ذلك، وقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- أخبر بأسباب أو ببعض أسباب ذلك في قوله: { إذا أذنب العبد ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب ونزع صقل قلبه، فإن عاد نكتت نكتة ثانية } أي أن كل ذنب ينكت في قلبه نكتة سوداء، ثم سوداء ثم سوداء إلى أن تغطي القلب تلك السيئات؛ فذلك الران؛ لكن إذا رزقه الله تعالى توبة وعملا صالحا صقل قلبه وأصبح أبيض أزهر كالسراج يزهر. وهكذا أيضا ورد في حديث حذيفة المشهور أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: { تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا... عودا فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء } وهكذا أيضا أحاديث كثيرة تتعلق بأمراض القلوب، ولسنا بصدد الكلام عليها، فنحن بحاجة إلى الأسباب التي يرق بها القلب ويخضع، ويكون ذلك من الدوافع له إلى الأعمال الصالحة وإلى التوبة النصوح. |