............................................................................... فمنهم ملك الوحي الذي هو جبريل عليه السلام. ورد ذكره في قوله تعالى: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } . هذه أوصاف هذا الملك، وصفه بأنه رسول. يعني يرسله إلى أنبيائه, ينزل عليهم بالوحي, وأنه كريم, أي: كريم على الله, له مكانة, وأنه ذو قوة, وصفه بأنه ذو قوة, وأنه مكين، عند ذي العرش؛ يعني عند رب العرش, ذو قوة عند ذي العرش مكين. يدل على مكانته, وما كان له عند الله تعالى من المنزلة. ثم أخبر بأنه مطاع؛ "مطاع ثَمَّ", يعني: فيما بين الملائكة. وأنه أمين: أمين على الوحي الذي يوحيه الله إليه، ويأمره بأن يبلغه. يبلغ ما أوحي إليه بدون تغيير وبدون زيادة. ومن ذلك تبليغه ما أوحي إلى نبينا صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن ومن هذه السنة. ووصفه في آية أخرى في قوله تعالى: { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } إلى قوله: { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى } فهذه صفات جبريل أنه شديد القوى؛ خلقه الله تعالى وأعطاه قوة لا يقدر قدرها إلا الله شديد القوى. والمرة: القوة، ذو مرة؛ يعني ذو شدة وقوة بما أعطاه الله سبحانه. كذلك وصف في الأحاديث، أو ذكر أنه له ستمائة جناح، قد ذكر الله الملائكة في قوله: { جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ } أي يزيد بعضهم على هذا المقدار وهذه الأجنحة ما يشاء. فهذا ملك الوحى الذي هو جبريل ذكره الله تعالى في القرآن باسمه في قوله تعالى: { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } إلى قوله: { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } وفي قول الله تعالى : { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } . قرأه بعض القراء جبرائيل أو جبرئيل وقرئ جبريل هذا ملك من ملائكة الله, هذه خلقته, وهذه عظمته. أنه رآه صلى الله عليه وسلم مرتين مرة ذكرت في سورة التكوير { وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ } أي رآه قد سد الأفق يعني ما بين المشرق والمغرب، أو ما بين الشمال والجنوب رآه قد سد الأفق { بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ } . والمرة الثانية ذكرت في سورة النجم { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى } فهذا الضمير يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم. رأى النبي صلى الله عليه وسلم ملك الوحي على هذه الصفة بهذه الكيفية, أي: أنه قد سد الأفق. وأما رؤيته لبقية ما ينزل فإنه ينزل على قلبه، ويتمثل له أحيانا في صورة, رجل يقال له: دحية الكلبي ويتمثل أيضا في صورة رجل لا يعرفونه, وغير ذلك. يعنى أنه إذا ظهر للناس فإنه يتمثل في صورة إنسان؛ ذلك لأن الناس لا يقدرون على أن يروه كما هو؛ لأنه ليس من جنس الخلق فتدركه أبصارهم. فهذا ملك من ملائكة الله تعالى, وكله الله بالوحي، فهو ينزل على الأنبياء بما أوحى الله تعالى إليهم. ذكروا أنه نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرين ألف مرة, أي في كل يوم مرارا، وأنه في آخر ما نزل عليه لما نزل به الموت، وأنه قال: سلام عليك, هذا آخر موطئي في الأرض. يعني أنه اعترف بأنه إنما كان ينزل بالوحي. وقال: إنما كنت حاجتي من الأرض, فهذا آخر موطئي, آخر نزولي. يعني نزوله بالوحي. لا شك أن هذا دليل على شرف الأنبياء الذين ينزل عليهم هذا الملك الذي هذه صفته. ملك عظيم خلقه الله على هذه العظمة, وعلى هذه الصورة الكبيرة التي لا يقدر قدرها إلا الله سبحانه وتعالى ، ومع ذلك ينزل بالوحي على الأنبياء. ورد في قصة نزول هذه الآية في البقرة أن اليهود لما سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أسئلة من الأمور الغيبية فأجابهم. قالوا له: أخبرنا من الذي وكل بك من الملائكة؟ من الذي ينزل عليك؟ فقال: ينزل علي وعلى الأنبياء جبرائيل عليه السلام. فقالوا: لو كان ينزل عليك ميكائيل لآمنا بك؛ لأن ميكائيل هو الذي ينزل بالرحمة وأما جبرائيل فإنه ينزل بالعذاب, فلا نؤمن بك! لأنه عدو لنا. فعند ذلك نزلت هذه الآية { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } أي: فإنهم عدو لله تعالى. وورد في بعض الآثار أنهم سئلوا: أين منزلة جبريل ؟ فقالوا: عن يمين العرش, أو عن .. إلى جانب العرش. فقالوا: من عاداه فقد عادى رب العرش. أو كما قيل: إن الذين يعادون ملائكة الله لا شك أنهم أعداء لله، فقال في هذه الآية: { فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } . كذلك قد تمثل جبريل عليه السلام بصورة ذلك الرجل الذي لم يعرفه الصحابة وقال: في حديث عمر رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر, ولا يعرفه منا أحد. هذا الحديث المشهور يسمى حديث جبريل أي أنه الذي سأل فيه هذه الأسئلة التي يريد بها أن يفيد الحاضرين. ويذكر في الأحاديث أنه -صلى الله عليه وسلم- عندما يأتيه الملك في صورة دحية بن خليفة الكلبي يظنون أنه دحية ثم بعد ذلك يحدث بأنه هو الملك. من ذلك قصة وقعت فى بني قريظة لما انهزم الأحزاب من قريش وغطفان ونحوهم, ووضع الصحابة أسلحتهم. يقول بعضهم: رأينا رجلا نحسبه هذا الرجل الذي هو دحية على فرس, فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل وضعتم سلاحكم؟ إن الملائكة ما وضعوا أسلحتهم. فقال: أين؟ فأشار له إلى بني قريظة, أي: أنهم لما نقضوا العهد فإن عليكم أن تتوجهوا إليهم. الملائكة ما وضعوا أسلحتهم. دليل على أن الملائكة ومنهم جبريل عليه السلام أنهم ينزلون ويقاتلون مع الصحابة في صورة بشر لا يعلمونهم, يقاتلون معهم العدو, وقد يكونون عددا كثيرا, وقد يكونون قليلا كما في قول الله تعالى: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ } . وفي قراءة مردَفين, أي: يردفهم غيرهم، أي يقاتلون معكم, وإن لم يكونوا يقاتلون قتالا يرى؛ لأنهم لا يظهرون للناس. وفي آية أخرى يقول الله تعالى: { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } . وذكر في وقعة أحد عن بعض الصحابة أنه قال: رأيت اثنين إلى جانبي النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة أحد يقاتلان عنه قتالا شديدا, ما رأيتهما قبل ذلك ولا بعده. فسئل النبي-صلى الله عليه وسلم- فأخبر بأنهما ملكان نزلا لحمايته ولنصرته، وهذا أيضا دليل على أن الله تعالى يمد رسله بالملائكة الذين يقاتلون معهم وأنه سبحانه قد حمى أنبياءه إذا شاء, ولو أن بعضهم قد يتسلط عليه بعض الأعداء . وبكل حال يؤمن المسلمون بما ورد من صفات الملائكة, ومن جملتهم هذا الْمَلَك، وأن الله تعالى هو ربهم وخالقهم, وأنهم مخلوقون بعد أن لم يكونوا, ويأتي عليهم العدم, أي: يموتون في آخر الدنيا؛ لقوله تعالى: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } وأن الله تعالى هو ربهم, هو الذي فَضَّلَهُمْ. كان النبي-صلى الله عليه وسلم- في قيامه في الليل, في استفتاحه يستفتح بقوله: { اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض, عالم الغيب والشهادة, أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون, اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم } يستفتح صلاته بأن الله تعالى هو رب الملائكة، وسمى هؤلاء الملائكة الثلاثة, دليل على أن هذه من أسماء الملائكة الذين خلقهم الله تعالى. يؤمن المسلمون بالملائكة وبوظائفهم، ويصدقون بما ورد من صفاتهم. |