بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال: رحمه الله تعالى: حدثنا الوليد قال: حدثنا محمد بن النصر قال: حدثنا بكر قال: حدثنا قيس بن سماك عن شيخ من بني أسد قال: : "سأل رجل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أرأيت ذا القرنين قال: كيف استطاع أن يبلغ المشرق والمغرب قال: سخرت له السحاب ومدت له الأسباب وبسط له النور وكان الليل والنهار عليه سواء". قال: حدثنا الوليد قال: حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية قال: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي قال: حدثنا الفضل بن معروف القطعي قال: حدثنا عون العقيلي عن أبي الورقاء أو أبي الزرقاء قال: قلت لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- " ذو القرنين مم كانا قرنيه قال: لعلك تحسب قرنيه ذهبا أو فضة، كان نبيا فبعثه الله -عز وجل- إلى ناس فدعاهم إلى الله -عز وجل- فقام رجل فضرب قرنه الأيسر فمات، ثم بعثه الله-عز وجل- فأحياه ثم بعثه إلى أناس فقام رجل فضرب قرنه الأيمن فمات فسماه الله -عز وجل- ذا القرنين . قال: حدثنا الوليد قال: حدثنا حاتم بن يونس قال: حدثنا محمد بن إبراهيم النسوي قال: حدثنا عامر بن الفرات قال: حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية قال: : "إنما سمي ذو القرنين لأنه قرن بين طلوع الشمس ومغربها". قال: حدثنا الوليد قال: حدثنا محمد بن الفضل قال: حدثنا حمزة بن مالك الخزاعي قال: حدثني سليمان بن حمزة عن كثير عن إبراهيم بن علي بن عبد الله بن جعفر قال: "إنما سمي ذو القرنين ذا القرنين لشجتين شجهما على قرنيه في الله وكان أسود". قال: حدثنا محمد بن الحسن الطبركي قال: حدثنا محمد بن عيسى الدامغاني قال: حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق قال: : "وقد بلغني في ذي القرنين أحاديث مختلفة من أهل العلم وقد وضعت حديث كل من حدث موضعه وحدثني من لا أتهم عن وهب بن منبه -رحمه الله تعالى -أنه كان يقول: "كان ذو القرنين رجلا من الروم ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره وكان اسمه الإسكندرليس وإنما سمي ذا القرنين لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس فلما بلغ وكان عبدا صالحا قال الله-عز وجل- يا ذا القرنين إني باعثك إلى أمم الأرض وهم أمم مختلفة ألسنتهم كلها وهم جميع أهل الأرض ومنهم أمتان بينهما طول الأرض كله ومنهم أمتان بينهما عرض الأرض كله، وأمم منهم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج؛ فأما اللتان بينهما طول الأرض فأمة عند مغرب الشمس يقال: لها ناسك وأما الأخرى فعند مطلعها يقال: لها المنسك، وأما اللتان بينهما عرض الأرض فأمة في قطر الأرض الأيمن يقال لها: هاويل. وأما التي في قطر الأرض الأيسر فأمة يقال لها: تاويل، فلما قال الله-عز وجل- له ذلك، قال ذو القرنين إلهي إنك قد ندبتني لأمر عظيم لا يقدر قدره إلا أنت فأخبرني عن هذه الأمم التي تبعثني إليها؛ بأي قوم أكابرهم وبأي جمع أكابرهم وبأي حيلة أكايدهم وبأي صبر أقاسيهم وبأي لسان أناطقهم وكيف لي بأن أفقه لغاتهم وبأي سمع أعي قولهم وبأي بصر أنفذهم وبأي حجة أخصمهم وبأي قلب أعقل عنهم وبأي حكمة أدبر أمورهم وبأي قسط أعدل بينهم وبأي حلم أصابرهم وبأي معرفة أفصل بينهم وبأي علم أتقن أمرهم وبأي يد أسطو عليهم وبأي رجل أطأهم وبأي طاقة أحصيهم وبأي جند أقاتلهم وبأي رفق استألفهم، فإنه ليس عندي يا إلهي شيء مما ذكرت ولا نقوى عليهم ولا نطيقهم وأنت الرب الرحيم أرحم الراحمين ولا تكلف نفسا إلا وسعها ولا تحملها إلا طاقتها ولا تعنتها ولا تفدحها، بل أنت ترأف بها وترحمها وتعذرها وتقبل منها دون جهدها وطاقتها، فأوحى الله عز وجل: إني سأطوق كما حملتك، وأشرح لك صدرك فيسمع كل شيء، وأشرح لك فهمك فتفقه كل شيء، وأبسط لك لسانك فتنطق به كل شيء، وأفتح لك سمعك فتعي كل شيء، وأحد لك بصرك فتنفذ كل شيء، وأدبر لك أمرك فتتقن كل شيء، وأحصي لك فلا يفوتك شيء، وأحفظ عليك فلا يعزب عنك شيء، وأشد لك ظهرك فلا يردك شيء، وأشد لك ركنك فلا يغلبك شيء، وأبسط لك يديك فتسطوان كل شيء، وأشد لك وطأتك فتبيد كل شيء، وألبسك الهيبة فلا يروعك شيء، وأمضي لك جناحك فلا يردعك ولا يردك شيء، وأسخر لك النور والظلمة فأجعلهما جندا لك من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك وتحوش عليك الأمم من ورائك. فلما قيل له ذلك؛ انطلق يؤم الأمة التي عند مغرب الشمس، فلما بلغه وجد جمعا وعددا لا يحصيهم إلا الله عز وجل، وقوة وبأسا لا يطيقه إلا الله عز وجل، وألسنة مختلفة وأهواء متشتتة وقلوبا متفرقة، فلما رأى منهم ذلك كابرهم بالظلمة وضرب حولهم ثلاث عساكر منها فأحاطت بهم من كل مكان وحاشتهم حتى جمعتهم في مكان واحد. ثم دخل عليهم بالنور فدعاهم إلى الله عز وجل وعبادته، فمنهم من آمن له، ومنهم من صد عنه، فعمد إلى الذين تولوا عنه فأدخل عليهم الظلمة فدخلت إلى أفواههم وأنوفهم وآذانهم وأجوافهم، ودخلت في بيوتهم ودورهم، وغشيتهم من فوقهم ومن تحتهم ومن كل جانب منهم فماجوا فيها وتحيروا، فلما أشفقوا أن يهلكوا فيها عجوا إليه بصوت واحد؛ فكشفها عنهم وأخذهم عنوة فدخلوا في دعوته فجند من أهل المغرب أمة عظيمة فجعلهم جندا واحدا. ثم انطلق بهم يقودهم والظلمة تسوقهم من خلفهم وتحوشهم من حولهم، والنور أمامه يقودهم ويدله وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى، وهو يريد الأمة التي في قطر الأرض الأيمن التي يقال لها هاويل، وسخر الله عز وجل له يده وقلبه ورأيه وعقله ونظره وائتماره؛ فلا يخطئ إذا ائتمر وإذا عمل عملا أتقنه، فانطلق يقود تلك الأمم وهي تتبعه، فإذا انتهى إلى بحر أو مخاضة بنى سفنا من ألواح صغار أمثال النعال فنظمها في ساعة، ثم حمل فيها جميع من معه من تلك الأمم وتلك الجنود؛ فإذا قطع تلك الأنهار والبحار فتقها، ثم دفع إلى كل إنسان لوحا فاتقاه ثم دفع إلى كل إنسان لوحا فلا يكرثه حمله، فلم يزل ذلك دأبه حتى انتهى إلى هاويل فعمل فيها كعمله في ناسك. فلما فرغ منهم مضى على وجهه في ناحية الأرض اليمنى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس فعمل فيها وجند منها جنودا كفعله في الأمتين اللتين قبلهما، ثم كر مقبلا في ناحية الأرض اليسرى وهو يريد تاويل، وهي الأمة التي بحيال هاويل وهما متقابلتان بينهما عرض الأرض كلها، فلما بلغها عمل فيها جندا منهما كفعله فيما قبلهما. فلما فرغ منهما عطف منها إلى الأمم التي في وسط الأرض من الجن وسائر الإنس ويأجوج ومأجوج، فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع أرض الترك نحو المشرق، قالت له أمة من الإنس صالحة: يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقا من خلق الله عز وجل كثيرا فيهم مشابهة من الإنس، وهم أشباه البهائم؛ يأكلون العشب ويفترسون الدواب والوحوش كما يفترسها السباع، ويأكلون نشار الأرض كلها من الحيات والعقارب وكل ذي روح مما خلق الله عز وجل في الأرض، وليس لله عز وجل خلق ينمو كنمائهم في العام الواحد ويزداد كزيادتهم ولا يكثر ككثرتهم. فإن كانت لهم مدة على ما نرى من زيادتهم ونمائهم فلا شك أنهم سيملكون الأرض، ويجلون أهلها منها ويظهرون عليها فيفسدون فيها، وليست تمر بنا سنة منذ جاوزنا ورأيناهم إلا ونحن نتوقعهم وننتظر أن يطلع أوائلهم من هذين الجبلين { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا } إلى قوله: { رَدْمًا } . فقال: أعدوا لي الصخور والحديد والنحاس حتى أرتاد بلادهم، وأعلم علمهم وأفتش ما بين جبليهم، ثم انطلق يؤمهم حتى دفع إليهم وتوسط بلادهم، فإذا هم على مقدار واحد إناثهم وذكرناهم؛ يبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا، لهم مخاليب في موضع الأظفار من أيدينا وأضراس وأنياب كأضراس السباع وأنيابها وأحناك كأحناك الإبل، فوههم تسمع لها حركة، إذا أكلوا كحركة الجزة من الإبل أو كقضم البغل المسن أو الفرس المقوى، وهم هلب عليهم من الشعر في أجسادهم ما يواريهم وما يتقون به الحر والبرد إذا أصابهم، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان إحداهما وبرة ظهرها وبطنها والأخرى زغبة ظهرها وبطنها تسعانه، إذا لبسهما يلتحف إحداهما ويفترش الأخرى ويتصيف في إحداهما ويشتو في الأخرى. وليس لهم ذكر ولا أنثى إلا وقد عرف أجله الذي يموت فيه ومنقطع عمره؛ وذلك أنه لا يموت من ذكورهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد، ولا تموت أنثى حتى يخرج من رحمها ألف ولد؛ فإذا كان ذلك أيقنا بالموت وتهيئا له، وهم يرزقون التنين في زمان الربيع، ويستمطرونه إذا تحينوه كما يستمطرون الغيث لحينه، فيقذفون منه كل سنة بواحد فيأكلونه عامهم كله إلى مثلها من قابل فيغنيهم على كثرتهم ونمائهم، فإذا أمطروا أخصبوا وعاشوا وسمنوا ورُئِيَ أثره عليهم فدرت عليهم الإناث وشبقت منهم الرجال الذكور. وإذا أخطأهم هزلوا وأجدبوا وجفرت الذكور وحالت الإناث، وتبين أثر ذلك عليهم، وهم يتداعون تداعي الحمى يعوون عي الكلاب ويتسافدون حيثما التقوا تسافد البهائم. فلما عاين ذلك منهم ذو القرنين انصرف إلى ما بين الصدفين فقاسم بينهما وهو في منقطع أرض الترك مما يلي الشمس فوجد بعد ما بينهما مائة فرسخ. فلما أنشأ في عمله حفر له أساسا حتى بلغ الماء ثم جعل عرضه خمسين فرسخا وجعل حشوه الصخور وطينة النحاس، ثم يذاب ثم يصب عليه وصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض، ثم علاه وشرفه بزبر الحديد والنحاس المذاب، وجعل خلاله عرقا من نحاس أصفر، كأنه برد محبر من صفرة النحاس . وسواد الحديد. فلما فرغ منه وأحكمه انطلق عامدا إلى جماعة الجن والإنس، فبينا هو يسير إذ دفع إلى أمة صالحة يهدون بالحق وبه يعدلون، فوجد أمة مقتصدة يقسمون بالسوية ويحكمون بالعدل ويتأسون به ويتراحمون، حالهم واحدة وكلمتهم واحدة، وأخلاقهم سليمة وطريقتهم مستقيمة، وقلوبهم مؤتلفة وسيرتهم مستوية وقبورهم بأبواب بيوتهم، وليس على بيوتهم أبواب، وليس عليهم أمراء وليس بينهم قضاة. وليس فيهم أغنياء ولا ملوك ولا أشراف، ولا يتفاوتون ولا يتفاضلون ولا يتنازعون ولا يستبون ولا يقتتلون، ولا يقحطون ولا يحرضون ولا تصيبهم الآفات التي تصيب الناس، وهم أطول الناس أعمارا وليس لهم مسكين ولا فقير ولا فظ ولا غليظ. فلما رأى ذلك ذو القرنين من أمرهم تعجب منهم، وقال لهم: أخبروني أيها القوم خبركم، فإني قد أحصيت البلاد كلها برها وبحرها وشرقها وغربها ونورها وظلمتها فلم أجد منها أحدا مثلكم، فأخبروني خبركم قالوا: نعم فاسألنا عما بدا لك. قال: أخبروني ما بال قبور موتاكم على باب بيوتكم؟ قالوا: عمدا فعلنا ذلك؛ لئلا ننسى الموت ولا يخرج ذكره من قلوبنا. قال: فما بال بيوتكم ليس عليها أبواب؟ قالوا: ليس فينا متهم وليس فينا إلا أمين مؤتمن. قال: فما بالكم ليس عليكم قضاة ؟ قالوا: لا نتظالم. قال: فما بالكم فليس فيكم حكام؟ قالوا: لا نختصم. قال: فما بالكم ليس فيكم أغنياء؟ قالوا: لا نتكاثر. قال: فما بالكم ليس فيكم ملوك؟ قالوا: لا نتكابر. قال: فما بالكم ليس فيكم أشراف؟ قالوا: لا نتنافس. قال: فما بالكم لا تتفاضلون؟ قالوا: من قبل أنا متواصلون متراحمون. قال: فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟ قالوا: من قبل ألفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا. قال: فما بالكم لا تستبون ولا تقتتلون؟ قالوا: من قبل أنا غلبنا طبائعنا بالعزم وسسنا أنفسنا بالأحلام. قال: فما بالكم كلمتكم واحدة وطريقتكم مستقيمة؟ قالوا: من قبل أنا لا نتكاذب ولا نتخادع ولا يغتاب بعضنا بعضا. قال: فأخبروني من أين تشابهت قلوبكم واعتدلت سيرتكم؟ قالوا: صحت صدورنا فنزع الله بذلك الغل والحسد من قلوبنا. قال: فما بالكم ليس فيكم مسكين ولا فقير؟ قالوا: من قبل أنا نقسم بالسوية. قال: فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ ؟ قالوا: من قبل الذل والتواضع. قال: فما بالكم أطول الناس أعمارا؟ قالوا: من قبل أنا نتعاطى الحق ونحكم بالعدل. قال: فما بالكم لا تقحطون؟ قالوا: لا نغفل الاستغفار. قال: فما بالكم لا تحرضون ؟ قالوا: من قبل أنا وطأنا أنفسنا للبلاء منذ كنا فأحببناه وحرصنا عليه فعرينا منه. قال: فما بالكم لا تصيبكم الآفات كما تصيب الناس؟ قالوا: لا نتوكل على غير الله، ولا نعمل بالأنواء والنجوم. قال: حدثوني أهكذا وجدتم آباءكم يعملون؟ قالوا: نعم وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم، ويواسون فقراءهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويحسنون إلى من أساء إليهم، ويحلمون على من جهل عليهم، ويستغفرن لمن سبهم،ويصلون أرحامهم، ويردون أماناتهم، ويحفظون وقتهم واقتصروا وقتهم لصلاتهم، ويوفون بعهودهم، ويصدقون في مواعيدهم، ولا يرغبون عن أكفائهم ولا يستنكفون عن أقاربهم، فأصلح الله بذلك أمرهم وحفظهم به ما كانوا أحياء، وكان حقا عليهم أن يخلفهم في تركتهم. قال محمد بن إسحاق -رحمه الله تعالى- فذكر أن ذا القرنين قال لتلك الأمة: لو كنت مقيما لأقمت فيكم، ولكن لم أؤمر بالقيام. هذه الآثار تتعلق بقصة ذي القرنين ولا شك أن غالبها من الإسرائيليات التي تنقل عن كتب الأولين، وهي مما لا تصدق ولا تكذب، كما ثبت أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: { إذا حدثكم بنو إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم؛ وقولوا: آمنا بما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون } أي: لا تصدقوهم في كل ما يذكرون؛ فتصدقون كذبا، ولا تكذبوهم في كل ما ينقلون؛ فقد يكون حقا فتكذبون بالحق، وآمنوا بذلك إيمانا مجملا. قصة ذي القرنين ذكرت في القرآن مجملة وهي من أعجب القصص؛ ذكر الله تعالى في هذه القصة قوله تعالى: { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا } أتاه الله من كل شيء سببا، فيدل على أن الله أقدره وقواه وأعطاه ما لم يعط غيره: { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا } فيمكن أنها سخرت له الريح، ويمكن أنها سخرت له السحب تقرب له البعيد، ويمكن أنها سخرت له المراكب التي يمكن وجودها في ذلك الزمان؛ كالسفن والبواخر وما أشبهها مما إذا ركبه قطع المسافة بسرعة؛ لأن الله تعالى ذكر أنه بلغ المشرق والمغرب في قوله تعالى: { فَأَتْبَعَ سَبَبًا } . ذكر أنه سار بسبب، سبب من الأسباب التي لا نعلم كيفيتها، ولكنها من الأسباب التي أوصلته إلى مقصده، وصل إلى مغرب الشمس ولا ندري أي جهة، لكن المكان الذي تغرب فيه نشاهدها تغرب، وإن كانت تطلع على آخرين، ولكنها { تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } يعني في عين ماء أو بحر. ذكر أنها حمئة أي ذات حمأة، والحمأ المسنون هو التراب الذي من كثرة نزول الماء عليه وبقائه فيه ينقلب إلى حمأ؛ يعني إلى لون أسود قرأها بعض القراء: "تغرب في عين حامية" أي شديدة الحرارة، يمكن أن تكون حرارتها من الشمس؛ إذا سطعت فيها احمرت وحميت، ولما وصل إليها لا شك أنه امتثل ما أمر الله. أمره الله بأن يدعو ويبذل الوسائل التي توصل إلى الناس الحق حتى تقوم حجة الله تعالى، وحتى لا يبقى لأحد عذر في أنه ما عرف الحق، فكان يدعوهم إلى الإيمان وإلى الأعمال الصالحة؛ لأن الله تعالى أمره بذلك، فقال تعالى: { قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا } تعذب من يستحق العذاب من العصاة، وتحسن فيمن يستحق الحسنى من المؤمنين امتثل ذلك، وقال: { أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } يعني في الدنيا { ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ } يعني: بعد الموت { فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا } فيعذبه عذابا شديدا زيادة على عذابه في الدنيا. وهذا دليل على أنه يقاتل من كفر، ولا شك أنه قبل القتال يدعوهم إلى الإيمان وإلى الدين وإلى عبادة ربهم ومعرفته والإنابة إليه، يدعوهم إلى الصلاح وإلى الأعمال الصالحة، ويبين لهم وسائلها وكيفيتها فينقسمون إلى قسمين: قسم يصرون على كفرهم وعلى عنادهم، وقسم يؤمنون ويطيعون. ذكر أن الله تعالى علمه اللغات التي يتكلمون بها، ويمكن أنه يستصحب من يترجم له تلك اللغات؛ حتى يخاطبهم بما يفهمون، فإنه لا بد أن يكون هناك اختلاف لغات كما هو الواقع، فإن لكل أهل جهة عادة لغة يعرفونها ويتعارفون عليها قد تكون تلك اللغة لا يعرفها غيرهم، فلا بد أن الله تعالى علمه هذه اللغات. ما ذكر في بعض سياق هذه الآثار أن الله علمه كل لغة، قد يكون هذا من خصائصه، وقد يكون إلهاما أنه كلما نزل بدولة أو بأهل ديانة أو بأهل لغة علمه الله كيف يخاطبهم، وكيف يقيم الحجة عليهم، وكيف يعاملهم؛ حتى يفهموا عنه ما يدعوهم إليه، ثم إذا دعاهم وبين لهم وأقام عليهم الحجج ونصب لهم الدلالات فعاند أحد منهم وأصروا على ما هم عليه من الديانات؛ فإنه يعذب من ظلم؛ يعذبه إما بالقتل وإما بالنفي والتشريد وإما بالضرب والتأديب، ويكون عذابه هذا زاجرا لغيره ومنبها له. وإذا قيل كيف يقدر على هؤلاء الأمم الذين لا يحصي عددهم إلا الله وهو فرد واحد؟ فيقال: يمكن أن الله تعالى قواه بأداة أن هناك من يسير معه ويقاتل معه إلى أن ينتصر على من عاداه وعلى من خالفه، ويمكن أن هذه قوة سماوية أن الله تعالى ينزل عليه الملائكة وينصرونه، أو يمكنه من هؤلاء الظالمين فيعذبهم بضرب أو بجلد أو بسجن أو بتوبيخ أو بسلب أو نحو ذلك حتى يعتبروا، وأخبر بأنهم بعد موتهم وبعد قتله لهم يلاقون العذاب في الآخرة، ولا يكفي عذابهم في الدنيا عذاب الله أشد؛ لقول الله تعالى: { وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } ولهذا قال: { ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا } . يقول: { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا } الجزاء من الله تعالى يدعو الله فيمكن لهم ويحسن إليهم ويوسع عليهم؛ إذا استجابوا له وأجابوا دعوته، وقبلوا ما دعاهم إليه من عبادة الله ومن معرفته. وهكذا يكون كل داعي، الدعاة الذين يدعون إلى الله تعالى يقولون حسنا لمن اتبعهم؛ ولهذا قال: { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا } أي سنعده باليسر ونبشره بالخير، ونذكر له العاقبة الحسنة لمن آمن واتبع واهتدى ونبشره بالفوز في الدنيا وبالفوز في الآخرة، ونقول له: هنيئا لك أن قبلت، هنيئا لك هذه الديانة، هنيئا لك هذا الإسلام وهذا الاستسلام وهذا التوحيد وهذه العبادة؛ أبشر بالخير وأبشر بالفوز عند الله تعالى فإنك من الفائزين. وهكذا يقول كل من دعا إلى الله تعالى فوجد من استجاب له ولبى طلبه وقبل ما جاء به وأسلم واستسلم لله تعالى فإنه يحظى بهذا الفوز وبهذه الدرجات ويسعد في الدار الآخرة ويسعد أيضا في الدنيا؛ ولهذا قال: { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى } يعني: الحسنى التي نقدر عليها نوصلها إليه، والحسنى التي لا نقدر عليها في الآخرة يثيبه الله تعالى ويجزيه بها كما قال تعالى: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } وقال الله تعالى: { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } أي المحسنين يجازيهم الله ويثيبهم ويجزيهم بأحسن ما يجازون به. ذكر في القرآن أنه أتبع سببا يعني: بذل سببا، وتوجه نحو المشرق ثم { بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ } كذا ذكر بلغ أيضا مطلع الشمس يعني سار من مغربها إلى مطلعها يعني إلى مكان يشاهدها تطلع فيه ليس بينه وبينها إلا بحر أو نحوه، ولو كانت في الحقيقة لا تغيب وإنما تطلع على آخرين، فلما بلغ ذلك المكان بلغ ما أمره الله به؛ يعني: عمل بما أمر الله من كونه يعذب من ظلم، ويعد من أحسن وآمن عمل بذلك. ثم بعد ذلك أتبع سببا يعني: توجه إلى جهة أخرى، ووصل إليها فوجد يعني: لما بلغ بين السدين { وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا } وجد قوما لا يكادون يفهمون كلامه ولا يفهم كلامهم، ولا بد أنه أتى بمن يترجم لهم ينقل لهم كلامه؛ حتى يفهموه، وينقل له كلامهم حتى يفهمه كعادة المترجمين { لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا } . ولما وجدهم ذكروا له أنهم مؤمنون، ولكن ذكروا أن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض؛ بمعنى أنهم إذا تمكنوا فإنهم يفسدون إما بالقتل وإما بنشر الرذائل وإما بالمضايقة على بعض الناس أو ما أشبه ذلك؛ فاستأذنوه أو طلبوا منه أن يقيم سدا حاجزا مانعا بينهم وبين يأجوج ومأجوج، ووعدوه بأن يجعلوا له خرجا أي نفقة حتى يقيم ذلك السد وكأنه سهل؛ حيث يكون بين جبلين عظيمين، والجبلان لا يستطيع أحد أن يصعدهما، فعمل على هذا السد، وأمر بجمع حديد ونحوه وقال: { آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ } الزبر جمع زبرة وهي الكومة من الحديد فجمع ما استطاع من الحديد، ثم وضعه في ذلك المكان الذي بين الجبلين، ثم أوقد عليه حتى ذاب ذلك الحديد وأصبح سائلا، ثم أفرغ عليه قطرا يتجمد به وأصبح سدا مرتفعا الله أعلم بقدر ارتفاعه؛ بحيث صار سدا منيعا يعجزون عن أن يتسلقوه؛ ولهذا قال: { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا } يعني: لم يستطع أحد من يأجوج ومأجوج أن يظهره يعني أن يصعد عليه؛ حتى يصل إلى أعلاه؛ وذلك لملوسته كأنه أملس لا يستطيعون أن يصعدوا عليه، ولم يستطيعوا أن ينقبوه ، ولم يستطيعوا له نقبا أي نحتا، بل هو سد منيع. يقول الله عنه: { هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } يعني: توفيقه لي أن أقمت هذا السد المنيع الذي بينكم وبين يأجوج ومأجوج { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ } إذا جاء وعد الله فإن الله تعالى يجعله دكا، يدكه حتى يصير مساويا للأرض إذا شاء الله تعالى. |