تقرر في هذين الأسبوعين وفي هذا المسجد أن ندرس عقيدة ابن قدامة التي هي "لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد"؛ وذلك لأنها جامعة وفيها الأدلة الواضحة على إثبات هذه الصفات، ومن جملتها الصفات الفعلية والصفات الذاتية؛ مع أن عقائد أهل السنة المتقدمون كافية؛ ولكن لما كانت هذه العقيدة مؤيدة القول بالأدلة مؤيدة بالآيات وبالأحاديث وكانت مختصرة وليس فيها تكرار الأدلة، وليس فيها الأسانيد التي في بعض عقائد السلف؛ إنما فيها الأحاديث محذوفة الأسانيد والآيات في كل موضوع -كانت بذلك مناسبة. وذكرنا أن أهل السنة من هذه العقيدة لم يتناولوها بالشرح مع أنهم شرحوا كتبا لابن قدامة التي في الفقه، فكتابه الذي هو "المقنع" شرحه أكثر من عشرة واشتغلوا به قديما وحديثا، وتوسعوا فيه ومشوا على منهجه وعلى طريقته، مما يدل على أن من بعده من الحنابلة يهتمون بالفقه أكثر من اهتمامهم بأمر العقيدة، كذلك قد يخشون إذا كتبوا في العقيدة من أهل زمانهم الذين تمكن عندهم المعتقد الأشعري تمكن عندهم مذهب الأشاعرة في باب العقيدة فكانوا لا يعرفون غيره. ظهر في القرن الحادي عشر عالم حنبلي ألف أيضا في العقيدة وهو السفاريني وكتب على عقيدته شرحا، وعقيدته منظومة سماها "الدرة البهية في عقد الفرقة المرضية" وشرحها بشرح موسع وسمى شرحه "الدلائل الواضحة" أو نحو ذلك هذا الشرح موسوعة كبيرة توسع فيه وشرح فيه هذه العقيدة، ثم اختصر شرحه عالم يقال له ابن مانع -رحمه الله- وسمى شرحه "الكواكب الدرية في شرح الدرة البهية في عقد الفرقة المرضية"، شرح صاحب العقيدة يقال له لما شرحها توسع في شرحها فرأى أن ذلك الشرح الواسع لا يناسب العامة فاختصره في هذه الرسالة التي سماها "الكواكب الدرية"، وكلها من الشروح الموجودة؛ ومع ذلك فإن هذا العالم الذي هو السفاريني مع توسعه كان أهل زمانه على تلك العقيدة التي هي عقيدة أهل الأشاعرة ونحوهم، ظهر ذلك في كتابه "لوائح الأنوار البهية شرح العقيدة الدرية"، ظهر ذلك أيضا في نظمه، فلذلك أنكر عليه علماء وأئمة الدعوة ونبهوا على بعض الأخطاء التي وقع فيها، فينتبه لما وقع في لوائح "الأنوار البهية"، ولما تبعه عليها أيضا ابن مانع في رسالته أوفي مختصره؛ ليعرف بذلك أن هذا المعتقد الذي هو إنكار كثير من الصفات والتصريح بكثير من البدع المحدثة أنه أيضا قد تمكن حتى من بعض الحنابلة المتقدمين والمتأخرين. فمن المتقدمين أبو الوفاء بن عقيل وكان تلميذا لأبي يعلى الذي جدد المذهب الحنبلي وألف فيه رسائل تتعلق بالعقيدة وتتعلق بالأحكام وبالفقه، تتلمذ عليه أبو الوفاء ولكن اشتغل بعلم الكلام، وألف كتابه الكبير الذي سماه "الفنون"، فلما ألفه وقع فيه شيء من علم الكلام الذي تأثر به لما تتلمذ على بعض المتكلمين، وتبعه على ذلك أيضا عالم حنبلي مشهور وهو أبو الفرج ابن الجوزي الذي هو موسوعة، كتب في كل الفنون غالبا وألف مؤلفات كثيرة؛ ولكن لما كان مشائخه الذين تلقى عنهم علم العقيدة غالبهم من الأشاعرة عند ذلك تأثر بهم، فأنكر كثيرا من الصفات الفعلية كصفة النزول الحقيقي لله تعالى، والمجيء يوم القيامة، وما أشبه ذلك، وخيل إليه أن إثبات ذلك من إثبات التشبيه من التشبيه ونحوه، فعلم بذلك أنه ليس كل من كان على المعتقد الحنبلي يعني على معتقد الحنابلة أنه يكون من أهل السنة والجماعة؛ بل قد يوجد في الحنابلة من عليهم أخطاء. وكان في عهد شيخ الإسلام ابن تيمية لما أظهر العقيدة السلفية وتجادل هو وأهل زمانه من الأشعرية عند السلطان في دمشق وكان السلطان يعترف بمكانة شيخ الإسلام وبفضله وبشهرته وبمكانته في النفوس، أراد ذلك السلطان أن يجمع بينهم فقال: إنكم شافعية وهو حنبلي فاتركوه على معتقد الحنابلة فإن هذا معتقده الذي اعتقده الإمام أحمد بن حنبل فقال شيخ الإسلام -رحمه الله- معاذ الله أن يكون هذا معتقد أحمد معاذ الله أن يكون للإمام أحمد معتقد يختص به من بين سائر علماء السلف؛ بل الأئمة الأربعة كلهم على هذا المعتقد، وطالبهم أن ينقلوا عن أحد من الأئمة أنه وافقهم على ما يقولونه، فلم يجدوا بدا إلا أن يعترفوا بالعجز ويلجئوا إلى إظهار بغض شيخ الإسلام ابن تيمية والوشاية به إلى أن يؤذى وأن يحبس، وهذه سنة الله أنه يجعل لكل من ظهر واشتهر بالحق والصواب أعداء يناوئونه؛ سيما إذا كان له المكانة المرموقة في نفوس العامة والخاصة. فنقول: إن عقيدة ابن قدامة -رحمه الله- عقيدة مختصرة ألفها لأهل زمانه، ولم يتجرأ أن يصرح فيها بكثير من الصفات إنما ذكر الأدلة وكفى بها دليلا، فذكر الأدلة على صفات العلو وصفات الاستواء وما أشبهها، وكذلك صفات المجيء والنزول، ذكر الأدلة وبين أن هذه من الأدلة الواضحة الصريحة، وكذلك أيضا بالغ فيما يتعلق بكلام الله الذي هو القرآن وتوسع فيه؛ وذلك لإقامة الحجة على من ناوأه من أهل زمانه، فكان هذا هو السبب في عدم تصريحه بالأدلة لكثرة المناوئين له -يعني- بدلالتها؛ بخلاف شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه لما كانت له الشهرة تجرأ على إظهار دلالتها وعلى القول بموجبها؛ مع أنه -رحمه الله- متمكن في علم الكلام الذي كانوا قد انخدعوا به، متمكن كثيرا؛ ومع ذلك فإنه لم ينخدع بعلم الكلام الذي انخدع به أولئك مما كان سببا لجهره بالصواب ولقوله بالحق ولعدم مبالاته وخوفه من أحد، فهو لا يخاف في الله تعالى لومة لائم. نبدأ فيها، نقرأ فيها كل يوم رجاء أننا نكملها -إن شاء الله- في هذين الأسبوعين. |