مسألة الاستطاعة شرط التكليف

نعلم أن الله سبحانه وتعالى ما أمر إلا المستطيع، ما أمر ونهى ألا من هو قادر، لا يمكن أن الله يأمر العاجز، كما أن ذلك لا يؤمر حسا، فلا يجوز مثلا أن تقول للأعمى اكتب أو اقرأ هذا الكتاب ما يقدر؛ لأنه فقد البصر فلا يكلف إلا بما يقدر عليه. فالله تعالى ما أمر إلا من هو مستطيع فقول الله تعالى: { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } لو كانوا لا يقدرون ما أمرهم بإقامة الصلاة، لو كانوا مثلا مسلوبة قدرتهم لما أمرهم، وكذلك قوله تعالى: { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى } لو كانوا مجبورين عليه ليس لهم اختيار ما أمرهم، ما نهاهم؛ يدل على أنهم يقدرون على أن ينتهوا؛ ويترك ما نهوا عنه، وأنهم يقدرون على فعل ما أمروا به ولو كانت قدرتهم مسبوقة بقدرة الله تعالى فهو ما أمر إلا المستطيع من للفعل والترك، ولذلك لما أمر الله تعالى بالحج: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } قيده بقوله: { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } علم أن من خلقه من لا يقدر على الحج للمشقة والسفر وللبعد وما أشبه ذلك؛ فلذلك ما أمر إلا المستطيع { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } الله تعالى لا يجبر أحدا على المعصية؛ "يعني يلجئه ويجبره عليها، إنما جعل له قدرة وله إرادة فإذا وقع في المعصية قيل هذا العاصي زينت له نفسه زين له الشيطان زين له هواه، اتبع هواه، ولو كان الله قد قدر ذلك عليه وأراده ما جبر أحدا على المعصية، ولو اضطره إلى ترك الطاعة، لا يقال: إن هذا امتنع عن الطاعة لأنه عاجز، بل هو قادر ولكن ترك الطاعة باختيار منه، يلام على ذلك قال الله تعالى: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } دليل على أن الله ما أمر إلا بما في الوسع والطاقة والقدرة. "أية نفس لا يكلفها إلا بما في وسعها" يعني باختيارها وقدراتها وإمكانياتها، وقال تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } دل على أن لهم استطاعة أي بقدر ما تستطيعونه وبقدر ما تقدرون عليه، افعلوا ما تستطيعونه من تقوى الله تعالى، وقال تعالى: { الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ } { تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } وهذا كثيرا في القرآن، كما في قول الله تعالى: { جَزَاءً بِمَا كَسَبَا } { نَكَالًا مِنَ اللَّهِ } وقوله تعالى: { بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } كل ذلك دليل على أن للإنسان كسبا، وله عمل، وكل نفس تجزى بعملها { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا } { عَمِلَتْ } دل على أنها التي عملت { وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا } { الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } ثم دل على أن للعبد فعلا، وله كسب؛ يعني ينسب إليه فعله وينسب إليه عمله، فله كسب وله عمل يجازى عليه في الآخرة، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، يجازى على الحسنات بالصواب، وعلى السيئات بالعقاب، مع اعتقادنا أن ذلك كله حاصل بقضاء الله تعالى وبقدره. أنه هو الذي هدى هذا فضلا فاهتدى، وحكم على هذا بالطرد عدلا فشقي؛ فينسب إلى هذا اهتداؤه { فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } . الجمع بين قول القدرية وقول الجبرية الجمع بين قول القدرية الذين أنكروا قدرة الله، وبين المجبرة الذين أنكروا قدرة العبد؛ أننا نقول: إن قدرة الله عامة تدخل فيها قدرة العبد، وإن قدرة العبد خاصة خاضعة لقدرة الله، وإن تلك القدرة من الله تعالى وهبها للعباد، بها يزاولون أعمالهم، وبها تنسب إليهم شقاء وسعادة، وشقيا وسعيدا ومقربا وطريدا، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد؛ هذا هو الجمع بين هذين المذهبين.