وكذلك أيضا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بتفاوت الناس في هذا الوصف الذي هو الإيمان؛ فثبت عنه أنه قال: { يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال دينار من إيمان، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال برة أو مثقال شعيرة أو مثقال ذرة أو مثقال خردلة } . وتجدون ذلك في كتب الشفاعة في الكتب التي تذكر الشفاعة، ومن يخرج الله تعالى من النار؛ أنه يقول للملائكة ويقول للشفعاء، أَخْرِجوا من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال دينار من إيمان، أَخْرِجوا مِن النار مَن قال لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، أَخْرِجوا من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان. لا شك أن هذا دليل على التفاوت؛ فمن الناس مَن إيمانه في قلبه أرسى من الجبال وأثقل من الجبال، وذلك دليل على رسوخه وثبوته؛ بحيث إنه لا يتزعزع، وبحيث إنه لو عذب وأوذي وقطعت أعضاؤه ما تزعزع، ولا ارتد ولا كفر بعد إيمانه، ولا ترك الشرع ولا ترك الأوامر والنواهي، ومن الناس من ينحرف لأدنى فتنة أو أذى، قال الله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } هذا دليل على ضعف الإيمان، لو كان إيمانه ثابتا وإيمانه راسخا لما تزعزع ولما سوى فتنة الناس بعذاب الله، ولما خاف الناس كمخافة الله. فدل ذلك على تفاوت الناس في هذا الإيمان الذي في القلب، وإذا كان الإيمان راسخا في القلب ظهرت آثاره على الجوارح؛ رأيت جوارحه كلها منطلقة بالأعمال الصالحة؛ فرأيت لسانه لا يتكلم إلا بذكر الله وبشكره وبعبادته، ورأيت عينيه لا تنظر إلا إلى ما يحبه الله، ورأيت أذنيه لا تسمع إلا إلى ما يحبه الله، وإلى ما يزيد إيمانه، وإلى ما هو من الأعمال الصالحة. وكذلك ترى بقية جوارحه، وكذلك ترى بقية تصرفاته. ما ذكر هنا دليلا على نقصان الإيمان، ولا نقصان الدين، وقد ورد أيضا ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال للنساء: { ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب من إحداكن، سألنه: ما نقصان العقل والدين؟ قال: أما نقصان العقل فإن الله جعل شهادة المرأتين بشهادة رجل، وأما نقصان الدين فإن المرأة إذا حاضت وتركت الصلاة وأفطرت في رمضان فإن ذلك من نقصان دينها } . فجعله نقصا وإن كانت معذورة بذلك؛ فدل على أن الإيمان يتفاوت، ولا شك أنه يتفاوت بتفاوت ما في القلب، ويتفاوت أيضا بتفاوت الأعمال الظاهرة. فمعلوم أن إيمان الصحابة الذين لقوا العذاب وصبروا أرسى من الجبال، تعرفون أنهم لما أسلموا في مكة وثبت الإيمان في قلوبهم لقوا عذابا؛ فكان المشركون يضربون ويسجنون ويعذبون بأنواع التعذيب، حتى كانوا يوثقون أحدهم ويلقونه في الشمس في شدة الحر ويضعون على صدره الحجارة، ويقولون: اكفر بمحمد فهذا هذا دليل على تفاوت ما في القلب من الإيمان، ثم قول الله تعالى: { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } كلمة "مؤمنة" هنا لا يشترط أن يكون العبد الذي يعتق أن يكون كامل الإيمان؛ بل يجوز إعتاقه ولو كان فاسقا، ولو كان يعمل شيئا من المعاصي فإن معاصيه لا تخرجه من الإيمان، يصدق عليه أنه مؤمن مع وجود بعض المعاصي. وكلمة الإيمان إذا تفاوت الناس فيها فإن ذلك دليل على أنها وإن كان الاسم واحدا الإيمان، ولكن يتفاضل أهله بتفاضل أعمالهم وبكثرتها، فليس إيمان الملائكة كجبريل وميكال ونحوهم كإيمان أفسق الناس وأعتاهم، بل هؤلاء لهم إيمان وهؤلاء لهم إيمان، حتى تجد أن أولاد الرجل الواحد يتفاوتون في ذلك؛ فمنهم فاسق عاص عاتٍ مع أننا لا نخرجه من الإيمان، ومنهم عبد ذليل مطيع واثق في أوامر الله تعالى، ومع ذلك نسمي هذا مؤمن وهذا مؤمن، ولكن هذا مؤمن عاصٍ وهذا مؤمن طائع. سبب تسمية المرجئة بهذا الاسم أما طائفة المرجئة، فسموا مرجئة لأحد سببين: الأول: أنهم أرجئوا الأعمال من مسمى الإيمان، والثاني أنهم غلبوا جانب الرجاء. وقد كثر وعيد السلف رحمهم الله وتوعدهم لهؤلاء المرجئة؛ وذلك لأنهم كثروا .. وبالأخص في المذهب الحنفي؛ الأحناف مع أنهم من أهل السنة نقلوا عن أبي حنيفة أنه قال: الإيمان مجرد التصديق؛ فلذلك قالوا: إن الإيمان هو التصديق فقط، وأن الأعمال ليست من مسمى الإيمان؛ وعلى ذلك جروا في معتقداتهم حتى الطحاوي في عقيدته الطحاوية لما كان على هذا المعتقد؛ يعني على مذهب الأحناف أخرج الأعمال من مسمى الإيمان، وتكلف في التعريف الشارح ابن أبي العز هذا أيضا حنفي، وألف كتابه للحنفية ولكنه كان متأثرا بأهل السنة، فحرص على أن يجمع بين القولين وأن يجعل الخلاف خلافا لفظيا، وحاول التقريب بين مذهب أهل السنة في الإيمان، ومذهب الحنفية في أن الأعمال ليست من مسمى الإيمان، وقال: إن الحنفية يجعلونها من لوازمه، وإن لم يجعلوها من مسماه ولم يصنع شيئا. بل نقول: إن الخلاف ليس لفظيا، بل إنه خلاف معنوي، وإن الذين أخرجوا الأعمال من مسمى الإيمان لا شك أنهم قد تساهلوا كثيرا، وسهلوا أمر المعاصي لأن العاصي يقول: أنا مؤمن إذا كانت الأعمال ليست من الإيمان، فأنا مؤمن يعني أن قلبي مصدق؛ أصدق بالبعث بعد الموت، وأصدق بالجزاء الأخروي، وأصدق بالدار الآخرة، وأصدق بأسماء الله وصفاته، ولكن إذا تخلف العمل لا يضر. أليس هذا فتحا لباب ترك الأعمال؟! أليس هذا فتحا لباب التساهل في المعاصي وما أشبهها؟! فلذلك المحققون على أن الخلاف معنوي ليس مجرد لفظ، فتقريب شارح الطحاوية بين القولين؛ يريد بذلك تسهيل الأمر الذي هو معتقدهم، ويريد بذلك في أنهم مقاربون لمعتقد أهل السنة، ومع ذلك فإنه يميل إلى قول أهل السنة في جميع ما يعتقده، وفي جميع ما ذكره في هذه العقيدة. وبكل حال نقول: إن الذين أخرجوا الأعمال من مسمى الإيمان قد سهلوا أمر ترك الأعمال، وأن الذين غلبوا جانب الرجاء قد سهلوا أمر المعاصي، وإن الصواب أن الأعمال من الإيمان، وأن تركها من خصال الكفر، وأن الإيمان له شُعب شُعبه كثيرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: { الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة } جعلها كلها من الإيمان. وأن الكفر أيضا له شعب، إذا كان للإيمان شعب فللكفر شعب يتجمع منها مجموع الإيمان أو مجموع الكفر. فإذا اعتقد المسلم ذلك خرج من هذه البدع المكفرة أو المفسقة.. .. نتوقف على الإيمان بالمغيبات لأن بعضه مرتبط ببعض. |