............................................................................... فاتفق أهل السنة على أن القرآن كلام الله، وأن الذين قالوا: إنه مخلوق. قد ضلوا ضلالا بعيدا، وأن قولهم هذا مخالف للعقل، ومخالف للدليل. الأدلة واضحة كما سمعنا، قال الله تعالى: { يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ } فأثبت أنه قال، والقول: كلام، وقال: { أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ } والكلام: هو المسموع. كل ذلك دليل على أن كلام الله تعالى مسموع، وأنه هذا القرآن الموجود، أنزله الله تعالى على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } . سماه الله تعالى: "قرآنا" في قوله تعالى: { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } وقال تعالى: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي } يعني: أنه يقرأ؛ لأن ما لا يقرأ لا يسمى قرآنا، فلما كان يقرأ يعني يتلى وينطق به سمي قرآنا. وسماه الله تعالى: "كتاب" في قوله تعالى: { فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } وفي قوله تعالى: { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ } يعني: من هذا الكتاب. في آيات كثيرة؛ وذلك لأنه يكتب؛ لأنه مكتوب في المصاحف، ويكتب في الأوراق، وينسخ من كتاب في كتاب. وسماه الله تعالى: "حبل" حبله المتين في قوله تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا } اعتصموا به يعني تمسكوا به. الحبل: هو السبب الذي يتوصل به إلى غيره، الذي يتمسك به من يصعد أو من ينزل. الحبال معروفة، سماه الله حبلا؛ لأن من تمسك به أوصله إلى رضا الله تعالى. سماه الله تعالى: "الصراط"، وفسر قوله: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ } أن القرآن هو الصراط، وكذلك قوله: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ } وكذا قوله: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا } فهو صراط الله. الصراط: هو الطريق الذي يسار عليه. سماه الله تعالى: "تنزيلا" في قوله تعالى: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } { تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } { وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ } سماه الله تعالى. أو نزل به الروح الأمين: هو الملك المأمون جبريل عليه السلام، ويسمى الروح وفسر في هذه الآية { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } وسماه الله تعالى أمين في قوله تعالى: { ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } أي مأمون على وحي الله تعالى. نزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، على قلب سيد المرسلين، قال تعالى: { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ } كان ينزل به الملك، ثم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم، فيثبت في قلبه، ثم بعد ذلك يعلم معناه، إن كان في أول الأمر إذا نزل عليه يحرك لسانه متابعة لما يسمعه من الملك، فيجمع بين تحريك لسانه وبين الإنصات بقلبه وبين الاهتمام بتلقيه، فيلقى من الوحي شده، فعند ذلك أنزل الله تعالى: { وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } أي لا تستعجل بقرءاته، وأنزل قوله تعالى: { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } . كذلك جعله الله تعالى بلسان عربي مبين، أي: بلسان العرب، دليل على شرفهم، وكذلك أيضا ليفهموه، وليعرفوا الخطاب به، قال تعالى: { لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } أي فصيح، وقال تعالى: { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } أيكون نبي عربي وكلام أعجمي ونحن الذين أرسل إلينا لا نفهم؟ فجعله الله تعالى بلسان عربي مبين منزل كما في الآيات: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ } { مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ } { تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } والنزول لا يكون إلا من الأعلى { مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ } دل على أنه منزل من الله تعالى، وأن الله تعالى فوق عباده، وأنه أنزله وحيا؛ غير مخلوق رد على المعتزلة الذين قالوا: إنه مخلوق. اشتهر ذلك عن الجهم فقال: إن القرآن مخلوق؛ وذلك لأنه أنكر صفات الله كلها، ومن جملتها: الكلام. ولما اشتهر ذلك عنه تبعه عليه المعتزلة، منهم: أبو الهذيل العلاف والجاحظ وأشباه هؤلاء من أكابر المعتزلة، فاشتهروا بذلك. وكان من جملة من تلقاه: بشر المريسي الذي أفصح بأنه مخلوق. وتتلمذ عليه تلميذ له حنفي المذهب، يقال له: محمد بن شجاع الثلجي فجمع كلام المريسي في رسالة، وذكر فيها القول بخلق القرآن، والقول بإنكار الصفات صفات الله كلها، ثم رد عليه الإمام الدارمي عثمان بن سعيد في كتابه المشهور "رد الإمام الدرامي عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد"، وأبطل ما قاله، وناقشه في أقواله. ذلك بلا شك دليل على أن السلف رحمهم الله اهتموا بمناقشة أولئك المبتدعة. ثم إن أبا الحسن الأشعري كان في أول أمره معتزليا، تتلمذ على الجبائي وهو من رؤوس المعتزلة، وفي أثناء مناقشة له أنكر عليه، وتحول عن ما يقوله؛ لأن المعتزلة ينكرون قدرة الله تعالى، فناقشه في مسألة ولما لم يجد جوابا. عند ذلك.. ترك مذهب الجبائي وتتلمذ على محمد بن عبد الله بن سعيد بن كلاب الكلابي واشتهر بمذهبه، وبقي عليه نحو أربعين سنة وهو على هذا المعتقد، وألف أكثر كتبه وهو على معتقد الكلابي، واشتهرت كتب الأشعري التي كتبها في هذا الموضوع، ثم في آخر أمره تاب إلى الله تعالى من هذا المذهب، واتبع مذهب الإمام أحمد وألف على ذلك رسالته التي سماها: "الإبانة في أصول الديانة"، وكتابه الذي سماه: "مقالات الإسلاميين"، ونهج فيها منهج السلف، ورجع عما كان عليه من مذهبه الذي كان تلقاه عن ابن كلاب ؛ ولكن مع الأسف أتباعه الآن منذ نحو اثني عشر قرنا أو أحد عشر قرنا كلهم على مذهبه الكلابي الذي كان قبل أن يرجع، وهو أنهم يثبتون سبع صفات، ومنها: الكلام؛ ولكن لا يجعلونه كلاما حقيقيا؛ وإنما يجعلون كلام الله المعنى دون اللفظ. ويستدلون ببيت يدعون أنه من شعر الأخطل وهو قولهم: إن الكـلام لفـي الفـؤاد وإنمـا جعـل اللسـان على الفـؤاد دليـلا وقد رد عليهم العلماء، ومنهم: شيخ الإسلام ابن تيمية ومنهم: شارح "الطحاوية"، وقالوا: إن هذا البيت لنصراني، والنصارى قد ضلوا في معنى الكلام، وادعوا أن عيسى هو نفس الكلمة، فلا يجوز أن يحتج بكلامهم في العقيدة. وقالوا أيضا: إن هذا البيت مختلق مكذوب، لم يوجد في ديوان الأخطل ورواه بعضهم: إن البيان. ثم نقول لهم: أنتم لا تقبلون الأحاديث الصحيحة، وتقولون: إنها أخبار أحاد؛ مع أنها مروية بالأسانيد الصحيحة التي اتفق على تخريجها البخاري ومسلم تقولون: لا نقبلها في العقيدة، ما نقبل في الاعتقاد إلا المتواتر؛ ومع ذلك تقبلون هذا البيت، وتجعلونه دليلا قطعيا؛ مع أنه تفسير للكلام بتفسير باطل، فإن العرب لا يسمون الساكت متكلما، ولا ينسب للساكت كلام؛ ولو كان يحدث نفسه؛ ولو كان يحدث قلبه، فلا يجوز أن ينسب إليه كلام، فكيف مع ذلك تفسرون الكلام الظاهر بأنه المعنى دون اللفظ؟! ثم رد عليهم العلماء بإستدلالهم بكلام الأخطل وردهم للأدلة، ففي منظومة شيخ الإسلام يقول: قـبح لمـن نبـذ الكتـاب وراءه وإذا استـدل يقـول قــال الأخطل لا يجد أن يستدل بقول ، الأخطل وفي نونية ابن القيم يقول: ودليلهـم في ذاك بيـت قـالـه فيمـا يقـال الأخـطل النصـراني فيما يقال يعني أنه مع ذلك لم يثبت؛ وإنما يرونه هكذا. فالحاصل.. أن أهل السنة يقولون: إن الله تعالى متكلم، وأن كلامه مسموع، وأنه سمعه من شاء من خلقه، وأن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه. وأما الأشعرية فإنهم يقولون: كلام الله هو المعنى، وأما الحروف فإنها من ترجمة الملك، أو من ترجمة النبي صلى الله عليه وسلم. يعني: أنه ألقي في قلبه المعنى، فهو الذي عبر بهذا. فعلى هذا لا يكون لهذا القرآن حرمة؛ لأنه ليس عين كلام الله، وأهل السنة يقولون: إنه عين كلام الله؛ بل إنه عين الكلام، أتى به جبريل ينسخ عين كل كتاب. فهذه عقيدة أهل السنة: أنه منزل غير مخلوق. |