بسم الله الرحمن الرحيم كتاب النكاح من صحيح البخاري. باب الترغيب في النكاح لقوله تعالى: { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } الآية. قال أبو عبد الله حدثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا محمد بن جعفر أخبرنا حميد بن أبي حميد الطويل أنه سمع أنس بن مالك -رضي الله عنه- يقول: { جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما أخبروا كأنهم تقالّوها فقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني } . قال أبو عبد الله حدثنا علي سمع حسان بن إبراهيم عن يونس بن يزيد عن الزهري قال: أخبرني عروة أنه سأل عائشة -رضي الله تعالى عنها- عن قوله تعالى: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } قالت: يا ابن أختي! اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها؛ يريد أن يتزوجها بأدنى من السنة صداقها فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن فيكملوا الصداق وأمروا بنكاح من سواهن من النساء. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، هكذا رتب العلماء -رحمهم الله تعالى- فوضعوا كتاب النكاح بعد البيوع وبعد العبادات، فالبخاري بدأ بالإيمان ثم العلم ثم بالعبادات، وبعدما انتهى من العبادات بدأ بالبيوع وما يتصل بها، ثم بعدما انتهى منها بدأ بالجهاد ثم بدأ بالمغازي ثم بالتفسير ثم بفضائل القرآن، ثم بعد ذلك أتى بالنكاح والطلاق وما يتصل بهما؛ وذلك لأن النكاح يعتبر هو الحاجة الثالثة، فالأمر الأول الذي يتعلق بالعبادات هو حق الله تعالى وهو أولى بأن يبدأ به، وأن يهتم به. ثم بعد ذلك المعاملات التي يحصل بها الكسب الحلال، التجارات وما إليها، ووجوه المكاسب، وألحق بها بعد ذلك السيرة والجهاد؛ لأن الجهاد ملحق عند بعضهم بالعبادات، ولما كان التفسير له مكانته ألحقه بالجهاد وبالمغازي وبالسيرة النبوية، بعد ذلك أتى بالنكاح وذلك لأن الإنسان إذا استغنى بالكسب الحلال كان من تمام حاجته وضرورته النكاح؛ لتتم بذلك حاجته في هذه الحياة الدنيا. النكاح في اللغة: يطلق على الضم، ضم الشيء بعضه إلى بعض ومنه قولهم: تناكحت الأشجار، يعني إذا التقت أغصانها، أي تقاربت، سمي بذلك؛ لأن الزوجين ينضم بعضهما إلى بعض، ويطلق عليه أيضا الزواج؛ وذلك لأن الإنسان إذا كان فردا يسمى وترا وفردا، فإذا انضم إليه آخر سمي زوجا، وسمي شفعا؛ فلذلك ورد بلفظ الزواج وبلفظ النكاح. ثم إن النكاح معلوم أنه من ضروريات هذه الحياة الدنيا، ولا يتم تواجد المخلوقات إلا به؛ فإن الله تعالى خلق من كل زوجين، من كل جنس جعل زوجين؛ حتى يتوالد ويحصل هذا الجنس وذاك الجنس ولا ينقطع جنس عن جنسه، وكل يميل إلى شكله، كما هو مشاهد معروف مألوف؛ يعني كما في بهيمة الأنعام، قال الله تعالى: { قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } حمل من الإبل اثنين ذكرا وأنثى، ومن البقر اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الضأن اثنين، ومن الحمر اثنين، وكذلك من الوحوش، من الظباء اثنين، ومن الوعول اثنين، ومن الحمر الوحشي اثنين، ومن الفيلة اثنين. وهكذا حتى من الحشرات، من كل زوجين اثنين، وحتى أيضا من الطيور، من كل زوجين اثنين، من أنواع الطيور حشره الله تعالى له، حتى لا تغرق ويبقى جنسها يتوالد، ويبقى كل جنس كما هو؛ فذلك دليل على أن الله تعالى لما بث في الأرض من كل دابة جعل بينها هذا التقارب. وهذا مشاهد؛ أن كلا يتقارب مع بعضه، كل جنس يميل إلى جنسه، لا يوجد مثلا أن الثور ينزو على الحمار؛ على الأتان، ولا أن الجمل ينزو على البقرة، كل يميل إلى جنسه، ولا أن الكبش ينزو على العنز؛ بل كل يميل إلى جنسه الذي يناسبه، وألهمها الله تعالى هذا التزاوج حتى يحصل بينها هذا التناسل؛ فكذلك الإنسان جعله الله تعالى مخلوقا من ذكر وأنثى ، وجعل بينهما هذا التواد وهذا التقارب حتى يحصل بذلك هذا التوالد وبقاء هذا الجنس الإنساني، إلى الحد الذي قدره الله تعالى لوجود البشر الذين قدر أنه سيخلقهم ويوجدهم، فما من نفس منفوسة إلا والله تعالى الذي خلقها والذي قدر وجودها. لا شك أيضا أن هذا النكاح فيه فائدة عظيمة، وذلك أن الإنسان ركب الله تعالى فيه هذه الشهوة، فلا بد أنها يوجد ما يكسرها في الجنسين، الذكر والأنثى توجد هذه الشهوة؛ فلا جرم جعلها الله تعالى فيهما حتى يحدث بينهما هذا التقارب الذي يحصل منه أو من آثاره التوالد، فوجود النسل الذي هو من جنس هذا النوع الإنساني. ثم فيه مع كسر الشهوة أيضا مصالح عظيمة، فإن كلا من الذكر والأنثى يتم باجتماعهما مصالح عظيمة؛ فالرجل مثلا يعف نفسه والمرأة تعف نفسها، ثم يحصل بينهما أيضا تفاعل على تربية الأولاد، وعلى تعليمهم وتنشئتهم، ثم أيضا يحصل أن كلا منهم يقوم بحاجة الآخر، فالزوج ينفق على امرأته، ويأتي إليها بما تحتاج إليه من النفقات ومن الكسوة ومن الأدوات ومن الحاجيات وما أشبهها. والزوجة تصلح بيت زوجها؛ فتصلح له الأكل وتصلح له الشراب وتصلح له اللباس، وتخدمه في بيته وفي منزله، وتقوم بحاجاته التي يحتاج إليها؛ فبذلك تعاونا بينهما، فلا جرم جاءت تخدم فيه، قال الله تعالى: { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } الأيامى: جمع أيم وهي المرأة المطلقة، أوالمتأيمة التي لم تتزوج أمر بإنكاحها وعدم إبقائها، أنكحوهن، { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ } يعني مماليككم، { وَإِمَائِكُمْ } يعني مملوكاتكم، ويعم ذلك أيضا المعتقين والأحرار، ونحوهم، ثم قال: { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } أي إذا عجز عن مئونة النكاح فإن عليه أن يتعفف. وقال الله تعالى: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } فهذا أيضا فيه الإرشاد إلى النكاح. قال بعضهم: مناسبة ذكر اليتامى في أول الآية أن الإنسان قد يكون عنده يتيمة، فإذا كانت عنده هذه اليتيمة فقد لا يقسط في حقها إذا نكحها، فأمروا أن يعدلوا عنها إلى غيرها كما في هذا الأثر عن عائشة سألها ابن أختها عروة عن هذه الآية: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ } وعن قول الله تعالى: { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ } يعني في يتامى النساء { قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } ؛ يعني إذا كان عند الرجل يتيمة أو يتيمات؛ هو مثلا وليهن كأن يكون ابن عم أو ابن خال أو عما أو نحو ذلك، وتكون هذه اليتيمة ضعيفة قليلة المال، فإذا لم يرغب فيها فلا يمنعها. كانوا يمنعون تزويجها فإنهم يقولون: إن ذلك الزوج الجديد إذا تزوجها دخل علينا وأخذ من عقارنا، وأخذ من أموالنا؛ فيعضلونها ويمنعونها ولا يرغبون في نكاحها؛ لكونها مثلا ليست ذات جمال، فقيل لهم: إذا خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ولا تعدلوا فيهن ولا تعطونهن حقهن، فاعدلوا عنهن إلى غيرهن ولا تمنعوهن، النساء سواهن كثير، ولا تضاروهن ولا تحبسوهن، قل الله يفتيكم في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن أجورهن كاملة. فنهى الله أولياء اليتامى ألا يمنعوها من الزواج خوفا على مالها، وإذا تزوجوها ألا يبخسوها حقها أن يقسطوا فيها فيعطوها حقها وافيا، هذا معنى قوله: { قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } يعني ما يستحق مثلهن من النساء، { وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } أي ترغبون في نكاحهن، وتقولون: هذه يتيمة نعطيها نصف الصداق أو ربع الصداق الذي يبذل لمثلها، فيكون ذلك ظلما لها؛ فاعدلوا عنهن إلى غيرهن، ولا تظلموهن ولا تبخسوهن حقوقهن، هذا معنى ما ذكرت عائشة في هذا الأثر. أما حديث أنس في قصة الثلاثة فذكر في هذا الحديث: أن هؤلاء الثلاثة جاءوا إلى بيوت النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فسألوا عن عبادته السرية الخفية في بيته، فأخبروا بأنه يصلي من الليل جزءا، وأنه يصوم أحيانا، ويفطر أحيانا، فعند ذلك قالوا: هذه عبادة قليلة، ونحن لسنا مثل النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأما نحن فلم يغفر لنا، فلا بد أننا نزيد على ما كان عليه، فالتزم أحدهم أنه يصلي الليل كله؛ ولا يرقد أبدا، والتزم الثاني أنه يصوم الدهر؛ ولا يفطر أبدا، والتزم الثالث أن يعتزل النساء؛ يعني يعتزل نكاح النساء قهرا لنفسه وكسرا لها، وقمعا لها عن شهوتها التي تميل إليها، ولما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأقوالهم أنكر عليهم، وأخبر بأنه بقوله: { إني أخشاكم لله وأتقاكم له } يعني أنكم، وإن استقللتم عبادتي فإني أرجو أن أكون أخشاكم وأتقاكم لله تعالى، وأخبر بأنه مخالف لما قالوه، فهو يقوم من الليل ما شاء الله، وينام ما شاء الله، لا يقوم الليل كله؛ بل يعطي نفسه حظها وراحتها من الليل أي من النوم، وكذلك أيضا الصيام، لا يكلف نفسه فلا يصوم الدهر كله؛ بل يعطي نفسه حظها وراحتها، فإن للنفس حقا. وكذلك أيضا في باب الشهوة، يعطي نفسه شهوتها فيبيح لنفسه أن يتزوج كما أمر الله تعالى وكما أحل له؛ لقوله تعالى: { إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } . فكذلك أنتم عليكم أن تمتثلوا، ولا ترغبوا عن سنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن من رغب عن سنته فقد خالفه؛ ولذلك قال: { من رغب عن سنتي فليس مني } أي من زهد في شريعتي وطريقتي، وأراد أن يفضل نفسه وأن يتميز بميزة يزيد فيها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد قلل من شأن السنة، وقلل من شأن السيرة النبوية وزهد فيها، وتنقص فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فلذلك قال: { من رغب عن سنتي فليس مني } فهذا ونحوه دليل على فضل النكاح؛ حيث إنه أنكر على هذا الذي التزم أنه لا يتزوج النساء. |