باب قول الرجل لأخيه: انظر أي زوجتي شئت حتى أنزل لك عنها رواه عبد الرحمن بن عوف . قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن كثير عن سفيان عن حميد الطويل قال: سمعت أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: { قدم عبد الرحمن بن عوف فآخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، وعند الأنصاري امرأتان؛ فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله فقال: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق؛ فأتى السوق فربح شيئا من أقط وشيئا من سمن فرآه النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أيام وعليه وضر من صفرة فقال: مهيم يا عبد الرحمن فقال: تزوجت أنصارية قال: فما سقت إليها؟ قال: وزن نواة من ذهب قال: أَوْلم ولو بشاة } . في هذا أن عبد الرحمن بن عوف من بني زهرة الذين هم أخوال النبي -صلى الله عليه وسلم- كان اسمه عبد عمرو في الجاهلية، ولما أسلم ترك ذلك الاسم، وتسمى بعبد الرحمن وهاجر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- مع المهاجرين الأولين وشهد له بالجنة؛ فهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، ولما هاجر كان قد ترك زوجته وترك أمواله وترك أهله وأقاربه، تركهم لله تعالى، فلما هاجر ولم يكن معه مال؛ آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين سعد بن الربيع وهو أحد أثرياء الأنصار، يعني جعل بينهما أخوة، لأنه كل واحد من المهاجرين الذين ليس لهم معهم مال يجعل بينه وبين أحد الأنصار أخوة، يعني من باب المؤاخاة الدينية، آخى بين كثير من المهاجرين مع إخوانهم من الأنصار. الأنصار لما كانوا أصحاب مال قالوا: هلموا يا إخواننا نقسم أموالنا بينكم، نقسم النخل بيننا وبينكم، ونقسم التجارة بينا وبينكم، ولكن المهاجرين امتنعوا من ذلك وقالوا: أشركونا في الثمرة والملك لكم، اكفونا المئونة، وأشركونا في الثمرة فقط، ويبقى الملك لكم، فسمعوا وأطاعوا، والتزموا بذلك، فكانوا إذا جنوا الثمار أعطوا إخوانهم من المهاجرين نصف الثمرة أو ربعها أو ما أشبه ذلك. كان من جملة المهاجرين عبد الرحمن بن عوف آخى بينه وبين سعد بن الربيع من أكابر الأنصار، قتل في غزوة أحد شهيدا، لما آخى بينه وبينه، دعاه إلى أن يقسم المال، أنا من أكثر الأنصار مالا فهلم فخذ نصف مالي، أو نصف ملكي وعندي زوجتان أنزل لك عن واحدة منهما، فإذا اعتدت تتزوجها. عبد الرحمن علم أن هذا فيه شيء من المضايقة، فقال: بارك الله لك في أهلك وفي مالك، ثم قال: أين السوق، دلوني على السوق، وكان ذا معرفة بالتجارة، فدلوه على سوق بني قينقاع فأخذ يتجر فيه. في اليوم الأول ربح شيئا من سمن وأقط، وفي اليوم الثاني زاد ربحه، ذكر في بعض الروايات: أنه لم يكن معه رأس مال ليتجر به، فاشترى بعيرا معه قيد أو خطام، ثم قال: من يشتريه برأس ماله دون الخطام؟ باعه برأس ماله وكان المشتري تقبل ذلك الثمن، وهكذا حتى جمع حبالا، يعني صارت هي فائدته؛ فباعها بثمن ثم اشترى بذلك الثمن الذي باع به تلك الحبال بضاعة ربح فيها، وهكذا إلى أن ربح شيئا بعد شيء إلى أن كان من أكثر المهاجرين بالمدينة مالا، وكان مع ذلك ينفق أمواله ويلتمس الأجر. ذكر أنه مرة قدم له مال كثير، فلما قدم له ذلك المال جاءه التجار وقالوا: نشتري منك، بكم تدفعوا لي ربحا؟ فقالوا: نعطيك في العشرة اثنين، العشرة ثلاثة، فامتنع وقال: قد أعطيت في العشرة مائة، من الذي أعطاك؟ قال: الله تعالى أعطاني في الحسنة عشرة أمثالها، فإني أرغب فيما عند الله، تصدق بتلك التجارة كلها، ذلك دليل على أنه كان يحب الخير، قدمت له أيضا تجارة مرة أخرى، ولما قدمت ارتجف لها أهل المدينة فروت عائشة { أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إنه يدخل الجنة حبوا } لماذا؟ قال: بكثرة الحساب عليه، فقال: لئن استطعت لأدخلنها ساريا أو مشيا. ثم تصدق بتلك التجارة التي قدمت المدينة كلها، كان كثير الصدقة، كان مع ذلك أيضا زاهدا في شهوات الدنيا، ففي الحديث عنه: أنه أوتي بطعام شهي فتذكر حالة الصحابة، فقال: هاجرنا إلى الله تعالى، نبتغي الأجر عنده، فمنا من وقع أجره على الله، ولم يأكل منه شيئا منهم مصعب بن عمير مات يوم أحد ولم يجدوا له إلا بردة كانوا إذا غطوا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطوا رجليه بدا رأسه، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهلكها، ثم إنه بكى بكاء شديدا حتى ترك ذلك الطعام الشهي. فالحاصل أنه في هذا الحديث لما ابتدأ في التجارة مكث أياما جمع مالا فتزوج، رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه أثر صفرة فعلم أنه قد تزوج، سأله، كلمة "مَهْيَمْ " أي: ما الأمر؟ ما الشأن؟ فقال: تزوجت امرأة من الأنصار، يعني امرأة مطلقة أو نحوها، وتزوج بعد ذلك حمنة بنت جحش أخت زينب وولد له منها أولاد. فالحاصل أنه سأله: كم أصدقتها؟ فأخبر بأنه أصدقها وزن نواة من ذهب، النواة: نواة التمر، يعني الحبة التي في جوف التمرة، أصدقها وزن نواة من ذهب، وذلك معروف أنه يعني مهر قليل بالنسبة إلى الأغنياء؛ لأنه من الأغنياء. فقال: { بارك الله لك، أَوْلم ولو بشاة } ففي هذا الحديث الدعاء للمتزوج بالبركة، هذا من السنة أن يدعى له بالبركة، كانوا في الجاهلية يرفئونه إذا تزوج، يقولون: بالرفاء والبنين، هذه دعوتهم؛ أي الرفاء: السعة في الرزق، والبنين يعني: الأولاد الذكور، يعني يدعون له بأن يكون في حياة وسعادة طيبة، وأن يرزقه الله أولادا ذكورا. فجاء الإسلام بالدعاء للمتزوج بالبركة، أن يقال: بارك الله لكما أو بارك عليكما، أو بالبركة، أو تحوزها بالبركة، أو يبارك الله لك فيها أو ما أشبه ذلك؛ فإن البركة كثرة الخير، والإنسان يحب أن يكثر الله تعالى خيره، سواء خير المال أو الخير الذي يأتي عليه بواسطة تلك الزوجة، أو الخير الذي يكون بسبب الأولاد، أو الخير الذي هو المال الذي يبارك الله تعالى له فيه. وأما الوليمة فإنه أمره أن يولم ولو بشاة، أخذوا أيضا من هذا الحديث أن الوليمة سنة مؤكدة؛ وليمة الزواج، وذلك ليدعو رفقته وأصحابه وأقاربه وجيرانه وأسرته وبنيه وذوي أرحامه؛ حتى يباركوا له ويهنئوه بذلك الزواج، ويأكلوا من ذلك الطعام، ويكون في ذلك تهنئة له ويكون في ذلك أيضا شكرا لله تعالى على أن وفقه لهذا الزواج الذي يرجو بركته وخيره. النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يولم على نسائه بما تيسر، يقول أنس ما أولم على أحد من نسائه مثل زينب أَوْلم عليها بشاة؛ يعني ذبح شاة واحدة من الغنم وبورك فيها، فكان يقول لمن يرسله: ادع فلانا وفلانا وفلانا، وادع من لقيت، فكان كل يأتي ويأكل ثم ينصرفون. أما عبد الرحمن فقد أمره بأن يُولم شاة؛ وذلك لأنه ذا جدة وثروة وإلا فإن الوليمة للفقير تصلح بأقل من شاة؛ يعني لو اشترى لحما مثلا، وأقل من شاة كنصف شاة أو ربعها، ودعا إليه أو أَوْلم بحيس؛ كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في وليمته لصفية حيث إنه دعا الأنطاع فبسطت وجمع عليها ما تيسر مما حوله؛ أقط وسمن وتمر؛ فأكلوا من ذلك فكان تلك وليمته. إذا تيسرت الوليمة باللحم؛ بالشاة ونحوها فهو الأصل، وإن شق ذلك أولم بما تيسر. وأما الإسراف في الولائم والإكثار منها فإن في ذلك شيء من الإسراف الذي نهى الله تعالى عنه في قوله: { وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } . وأما مقدار المهر في هذا أنه أمهرها وزن نواة من ذهب؛ فإنه قد ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يحث على تخفيف المهر، وكان يقول: { إن خير النساء أيسرهن مئونة } يعني أقلهن تكلفة، الخير بإذن الله يكون في أيسرهن مئونة، وكذلك ثبت أنه جاءه رجل تزوج بأوقية، والأوقية: أربعون درهما، يطلب منه المساعدة فأنكر عليه، وقال: { كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل } يعني أنكر عليه لما دفع أوقية، أو أوقيتين أو ثلاث أواقي مع أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يدفع لنسائه ثنتي عشرة أوقية ونشا، والنش: نصف الأوقية، والأوقية: أربعون درهما، ومجموع ذلك خمسمائة درهم، هذا الذي كان يدفعه لنسائه، أما بناته فكان يدفع لهن أربعمائة درهم، أي عشر أواقي، الأوقية أربعون درهما، وثبت أيضا أن امرأة تزوجت بنعلين، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم- { أرضيت من نفسك بنعلين؟ قالت: نعم، فأجاز نكاحها } . دليل على أنه يشرع التخفيف في المهر؛ لما في ذلك من تيسير على الفقراء ونحوهم، ولما في ذلك من توسعته تزويج الأيامى وتزويج العزاب ونحوهم؛ حتى لا تحصل المفاسد التي تحصل بكثرة العنوسة وبتأخير الزواج وما يحصل ذلك من المفاسد. نكتفي بهذا، والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. |