وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. أيها الأحبة، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وهاهو يتجدد اللقاء ونحن وإياكم نرتشف من معين الفوائد الجامعة التي سقي روضها سماحة والدنا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن جبرين نسأل الله أن يعلي منزلته، وأن يجزيه عنا خير الجزاء. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } . السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. هذه أو هاتان الآيتان من الآيات التي فيها التأديب والتعليم للحقوق التي هي الحقوق الإنسانية التي بين المسلمين؛ حق المسلم على المسلم أن يرسل إليه الخير وأن يدفع عنه الضرر والشر، وأن يكف عنه آذاه ويبذل له نداه، ويحبه ويظهر أسباب الحب ويبتعد عن أسباب البغضاء والعداوة والشحناء؛ وذلك لأن الناس إذا كانوا على دين واحد فلا بد أن يكونوا متفقين فيما بينهم: دينهم واحد، نبيهم واحد، دليلهم واحد، ربهم واحد، وجهتهم واحدة؛ يتوجهون إلى القبلة ويدينون بالإسلام، فإذا كانوا كذلك فلا بد أنهم يتآخون؛ يصيرون إخوة. في الآية التي تقدمت قبل هاتين الآيتين: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } فإذا كانوا إخوة فإنهم يجب عليهم أن يتحابوا وأن يتآلفوا وأن يتعاونوا وأن يتناصروا وأن يتباذلوا في ذات الله وأن يؤيد بعضهم بعضا، ولا يجوز لهم التقاطع ولا التهاجر ولا التخاذل فيما بينهم، ولا الإضرار من بعضهم لبعض، ومتى كانوا متآخين ومتحابين في ذات الله تعالى فإنهم ولا بد يتناصرون؛ ينصر بعضهم بعضا، يؤيد بعضهم بعضا، يقوي بعضهم بعضا، ويكونون بذلك أمة واحدة؛ كما أمرهم الله: { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } فهكذا أخبر بأن أمتهم أمة واحدة، ومتى تعاونوا وتناصروا واجتمعت كلمتهم فإنه يهابهم عدوهم، ويخاف منهم، يكون لهم وقع في نفوس الأعداء؛ فلا يقدم على الكيد لهم، ولا يقدم على البطش بهم، ولا غير ذلك. وأما إذا تفرقت كلمتهم واستبد كل منهم برأيه، وعاب كل منهم الآخر، وتخاذلوا فيما بينهم فإنه ولا بد تضعف معنويتهم؛ تضعف كلمتهم ويضعف احترامهم، ويقل قدرهم عند غيرهم؛ فيتهاون بهم الأعداء، ويكيدون لهم، وينتقمون منهم ويقاتلونهم، وهكذا . كان المؤمنون في العهد النبوي وفي عهد الخلفاء الراشدين ثبتت بينهم الأخوة والمودة والمحبة، ذكرهم الله تعالى بذلك؛ قال تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا } هكذا ذكرهم الله { كُنْتُمْ أَعْدَاءً } أي: في أول، أي في الجاهلية؛ { فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا } ألف الله تعالى بينكم، وأزال ما كان بينكم من العداوة، وتآلفت القلوب، وتقاربت الأفئدة، وزالت الإحن والعداوات والشحناء، ألف الله تعالى بينهم بسبب الإيمان الذي وقر في قلوبهم؛ فعرف كل منهم حقه وعرف حق أخيه، واقتنع كل منهم بما له، ولم يتقدم أحد منهم على أخيه بشيء ولم يظلمه، بل إذا شك في شيء فإنه يتخلى عنه، وبذلك لم يكن بينهم عداوات، ولم يكن هناك خصومات حتى إنه لا يترافع اثنان إلا عند اختلاف يسير؛ لما كان أي في عهد أبي بكر جعل عمر كقاض على الناس، ولما جعله قاضيا كان يمر عليه الشهر والشهران لا يترافع إليه أحد للقضاء بينهم في مسألة خلافية، كل منهم يقنع بحقه أو يتنازل عن حقه لأخيه، وربما يتنازل هذا وهذا أو يقتسمان الشيء الذي يختلفان فيه؛ هذا بسبب قوة الأخوة التي أكدها الله تعالى بين المسلمين، ثم إن الله تعالى أدبهم بهذه الآداب الدينية في هذه الآيتين؛ ذكر الله تعالى فيها جملا مما نهاكم عنه: الجملة الأولى: النهي عن السخرية ؛ قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ } . السخرية: هي الاستهزاء الذي يقصد به التنقص، وقد ذكر الله تعالى أن هذه السخرية من علامات الكفر ، ومن أعمال الكفار بالمؤمنين: أنهم يهزءون بهم ويستضعفون عقولهم؛ يقول الله تعالى في سورة البقرة: { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا } الذين كفروا يسخرون من الذين آمنوا، هذا أي: في الزمان القديم. وقد ازداد الأمر شدة فإنهم لا يزالون يسخرون من أهل الإسلام، ويدعون أنهم جهلة وضعفاء العقول، وأن الإسلام هو الذي كبتهم، وهو الذي أضعف معنويتهم وأضعف قوتهم، يسخرون من الذين آمنوا، قال تعالى: { وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } يعني: أنهم يسخرون منهم في الدنيا، ولكن للمتقين منزلة رفيعة عند الله تعالى فلا يضرهم أن هؤلاء يسخرون منهم. الآية الثانية في سورة التوبة قال الله تعالى: { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة؛ فجاء رجل بصاع، بصاع من طعام فسخر منه بعضهم، فقالوا: الله غني عن صاع فلان، وجاء رجل بمال كثير، فقالوا: هذا يرائي؛ ما تصدق بهذا إلا رياء؛ فأنزل الله أن هذا من السخرية التي تحبط الأعمال: { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ } أي: سخروا من هذا، وقالوا: مرائي، وسخروا من هذا وقالوا: إن الله غني عن صاعه وما علموا أن هذا جهد المقل، أن هذا هو قدرته التي قدر عليها فتصدق مما أعطاه الله؛ قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على الصدقة ويرغب فيها ولو كانت قليلة، فيقول: { تصدق رجل من صاع بره، من ديناره، من صاع تمره } حتى قال: { ولو بشق تمرة } فكيف تسخرون من هذا الذي تعب في يومه يكدح ويعمل حتى حصل على صاع فجاء به متبرعا؟! فهذا من سخرية المنافقين ونحوهم { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ } سخر الله من هؤلاء أي: هم أولى بأن يكونوا محل السخرية. كذلك الموضع الثالث: في سورة قد أفلح المؤمنون؛ قال الله تعالى يخاطب أهل النار: { قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ } . فهذا من جملة السخرية: أنهم يضحكون منهم، ويهزءون بهم، ويقولون: هؤلاء ضعفاء العقول، هؤلاء المتأخرون، هؤلاء الرجعيون، هؤلاء الذين لا خير فيهم ولا تأثير فيهم لمجتمعهم؛ وجودهم كالعدم، لو لم يوجدوا لكان خيرا، لماذا يعيبونهم؟!! يعيبون من هم أولى بالمدح والثناء عليهم!! وهكذا هم ورثتهم بكل ما هو من شعائر الدين، ويمدحون بما هو من المخالفات، وما هو من علامات الشقاء والحرمان والعياذ بالله. السخرية: تعم السخرية بالحالات التي يتصف بها أهل الخير، وتعم أيضا ما جاءت سخريتهم بخصائص الشريعة ونحو ذلك؛ فمن ذلك: سخريتهم بأهل اللحى، الذين يوفرون لحاهم، فتجد أولئك المخالفين لهم يعيبونهم ويسخرون منهم، فيعيبون السنة النبوية، ويقدحون فيهم، ويعيبونهم بهذا. إذا رأوا الملتحي عابوه بذلك ويشبهونه بتشبيهات بعيدة عن الحق؛ كقول بعضهم: لحيته كأنها ذنب تيس أو كأنه عاض على .. أو كأنها مكنسة بلدية أو نحو ذلك، لا شك أن هذا سخرية بالشريعة: { لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ } هؤلاء الذين تعيبونهم قد يكونون خيرا منكم. كذلك أيضا يسخرون من صلاتهم فيقولون: انظروا إليه يرفع عجزه ويخفض رأسه ويطأطئ رأسه كأنه غراب أو كأنه طير أو نحو ذلك يسخرون بهذه الصلاة، كذلك أيضا يسخرون بشيء من السنة ويتمدحون بعادات سيئة أو محرمة فيسخر كثير منهم بالسواك، ولا يسخرون بسجائر الدخان يتمدح أحدهم إذا شرب، أولع، سيجارته فيتمدح بأن هذا هو الرقي؛ لأنه يتشبه بأهل الثروة وبأهل الفكر وبأهل كذا وكذا، وإذا رأى من يستاك أو من يحمل السواك يعيبه؛ ويقول: هذا حمل هذا أي هذه الأعواد، ما فائدته؟ ما كذا وكذا؟!! نتذكر قبل أكثر من ثلاثين سنة: كان بعض الشباب الذين عندهم شيء من التطرف أخذوا يعيبون أهل اللحى ونحوهم، ويهزءون بهم، وكذلك أيضا يعيبون العادات السيئة، وأنشئوا قصيدة نبطية يعيبون بها الشيوخ وأكابر الأسنان، ويمدحون أنفسهم ويذكرون أفعالهم وأنهم وأنهم..، وهي التي يقولون فيها..، لا أقدر على حفظها، ولكن رد عليهم أحد المشائخ بقصيدة فصيحة يقول في أولها: خفافيش هذا الوقت كان لها ضرر وأوباشها بين الورى شرها ظهر يعيبون أهل الدين من جهلهم بهم كما عابت الكفار من جاء من مضر يقولون رجعيون لمـا تمسـكوا بنص من الوحـيين كان له الأثـر وإعفائهم تلك اللحـى لجمالهـا وترك سواد حـين كان بـه غـرر وحملهـم تلك العصــي لأنهـا لديهم حماقـات ومسـواك مطهـر فيا ليت شعري أين يقضى بهم إذا مهاوٍ سحيقات بها الشر والضـرر؟ كشربهم تلك الخــمور سـفاهة مع الفعلة الشـنعا بإتيـانهم ذكـر ومكهم التنبـاك وهو هلاكـهم .. ................................ نسيت الباقي، وبكل حال لما ذكر هذه الأحوال منهم دل على أنهم أولى بالعيب، وأولى بالتنقص، وبكل حال فهذا مما يعيبونهم به؛ يعيبونهم بحمل العصي، ويعيبونهم بالسواك، ويعيبونهم باللحى، وأشباه ذلك يقولون، أو يشبهونهم بهذه التشبيهات؛ هذا من السخرية: { لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ } وكذلك أيضا: يؤذونهم بالأفعال التي هم أولى بأن يكونوا هم أهلها، ككونهم يقولون: رجعيون، يقولون رجعيون ويعيبونهم بما تمسكوا به من السنة، لا شك أن ذلك أولى بأن يكونوا هم أولى به؛ فلذلك يقول الله: { عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ } . يعني: أن هؤلاء الذين تهزءون بهم هم أولى بأن يكونوا أفضل، وأن يكونوا أقدم، وأن يكونوا خيرا منكم عند الله تعالى وعند عباده؛ فهم يقيمون الصلاة، وهم يؤدون الزكاة، وهم يقرءون القرآن وهم يقرءون العلم، وأنتم وقعتم في هذه المحرمات وعدلتم عن العلم الصحيح، وعدلتم عن الشريعة، وعملتم بالمحرمات، فأنتم أولى بالعيب: { عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ } . { وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ } يعني: ولا يسخر نساء من نساء { عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ } يقع هذا أيضا في النساء يدخلون في قوله: ( قوم ) ولكن خصوا؛ لأن هناك عادات يتصف بها بعض النساء وتدعي الحضارة وتدعي التمدن، وإذا رأت غيرها قالت: هذه بدوية، هذه جاهلة، هذه متأخرة، ونحو ذلك. عادات يفعلها النساء في هذه الأزمنة يدعين أنها تقدم؛ فمن ذلك: إذا رأين اللاتي يلبسن اللباس الفضفاض الواسع قالوا: هذه متأخرة أو هذه بدوية أو نحو ذلك، التقدم عندهن هو اللباس الضيق التي تعقده على صدرها، فيتبين الصدر والنحر والثديان، ويتبين الأضلاع، ويتبين مفاصل الظهر والمنكبان ونحوهما، هذا هو الحضارة عندهن، كذلك إذا رأت التي تجدل رأسها قرونا، قالت: هذه متأخرة، هذه بدوية، هذه جاهلة. التقدم عندهن أن تقص شعرها أو تجعله مدرجات أو نحو ذلك؛ لأنها تقتدي بالذين وفدوا إلينا من الغرب؛ نساء الكفار أو نحوهم. هذا هو التقدم عندهن، وكذلك أيضا ما يعملنه بوجوههن مما يسمى بالمكياج أو بالنمص أو بالوشم أو نحو ذلك، عندهن أن هذا حضارة وأن ترك ذلك تأخر ورجعية وجهل وجهالة. لا شك أن هذا من أفعال الكفار ونحوهم، نقول: إن التقدم الحقيقي هو اتباع السنة، وما كان عليه نساء الصحابة رضي الله عنهن من التستر والاحتشام ونحو ذلك. الجملة الثانية: قوله: { وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } أي: لا يلمز بعضكم بعضا اللمز هو العيب، وقد ذمه الله تعالى وذم أهله؛ اقرءوا الآية التي ذكرنا قريبا، وهي قوله تعالى: { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ } يلمزونهم: يعيبونهم، يعيبونهم بأي شيء؟ يعيبونهم بهذا التبرع، ويعيبونهم بهذه الصدقة، والأولى أن يمدحوا بذلك ويثنى عليهم؛ لأنهم تصدقوا بما ينفع الإسلام والمسلمين، كذلك اقرءوا قول الله تعالى: { هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } . الهمز: هو العيب أيضا؛ هكذا وصف الله هذا الوليد الذي هو الوليد بن المغيرة نزلت فيه هذه الآيات، وكذلك آيات في سورة المدثر؛ فمن صفاته: أنه { هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } كذلك قال تعالى: { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَة } . الهمز واللمز هو العيب، والإشارات الخفية التي يقصد بها تنقص أخيه المسلم، يسمى ذلك همزا ولمزا، فيدخل في ذلك عيبه بالأقوال وعيبه بالأفعال، فمن ...... مثلا: أن يقلد مشيته على وجه التنقص بأن يمشي يقول: هذه مشية فلان كذا وكذا، ومن ذلك: أن إذا ذكره، ذكره بصفة قبيحة أو إذا رآه مثلا أشار إليه إشارة توحي بأنه متنقص له؛ كأن يظهر لسانه أو يشير بعينه، يغمز بعينه غمزا وهمزا ولمزا، هذا أيضا من اللمز: { وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } يعني: إخوانكم وتعيبونهم؛ فإن ذلك من التنقص الذي يكون عيبا للمسلم وهو ليس بعيب، فإذا كانت فيه خصال منتقدة فإنك ترشده، وتقول: رأيت فيك خصلة كذا وكذا، فأما أن تذكره في حالة غيبته وتقصد بذلك التنقص، والعيب له؛ حتى يحمل الحاضرون عليه حملة شديدة، لا شك أن هذا من اللمز: { وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } . الجملة الثالثة: قوله تعالى: { وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ } اللقب: هو الاسم الذي يشعر بذم أو بمدح، يذكر تارة للتعريف وتارة للتنقص، وإذا كان للتنقص وكان ذلك المسمى به يكرهه؛ فلا يجوز أن يذكر به، ينادى الإنسان باسمه أو بكنيته ولا ينادى بلقبه؛ يقول بعض الشعراء: أكنيـه حـين أنـاديه لأكـرمـه ولا ألقبــه فالســـوءة اللقــب يعني: أن اللقب يعتبر سوءة ؛ وذلك لأنه غالبا يكون عيبا له، فيذكر باسم زائد عن اسمه الأصل، لكن إذا لم يكن فيه عيب وكان يوافق عليه ويرضى به فلا مانع، لا مانع من ذكره من باب العلم، لا من باب التنقص. اشتهر كثيرون من رواة الأحاديث ببعض الألقاب منهم: أحد مشائخ البخاري ومسلم محمد بن الفضل السدوسي لقبه عارم فيذكرونه حتى يعرف به، ومنهم: محمد بن جعفر تلميذ شعبة لقبه غندر يذكر به حتى يميز، وتلميذه محمد بن بشار العبدي لقبه بندار يذكر به أحيانا . أما مسلم رحمه الله فإنه يختار الأسماء فتجدونه يقول: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر ولا يقول: بندار ولا يقول: غندر وكأنه يخشى الوقوع في هذا التنابز: { وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ } ولو كان ذلك لا يعاب به، ولو كان قد يذكر به؛ لأجل أن يعرف. كذلك أيضا من الألقاب: سليمان بن مهران يلقب بالأعمش يذكر به؛ لأجل أن يتميز يوجد في كتب الحديث فيقال: عن الأعمش حدثنا الأعمش وإن كان ذلك لقبا ولكن اشتهر به وليس فيه عيب له وقد يكون صفة له، والعمش: هو ضعف في البصر، الأعمش هو الذي يكون بصره ضعيفا هذه صفة، وقد يكون اللقب مدحا مثل: زين العابدين وهو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب هذا لقب فيه مدح أنه من العابدين، وأنه زين لهم، زين العابدين ولأولاده ألقاب أيضا فمنهم: الصادق ومنهم: الباقر ومنهم الراضي أو الرضا ونحوهم، هذه ألقاب يستعملها الرافضة؛ لأنهم يغلون فيهم، ويدعون أنهم أئمتهم فيذكرونهم بهذه الألقاب، وبكل حال فإذا كان اللقب فيه ما يسيء إلى صاحبه فلا يجوز ذكره، بل يذكر بالاسم الذي سمي به إلا إذا كان لقبا حسنا؛ كأسماء النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يقول: { لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي، وأنا المقفي وأنا العاقب } الذي ليس بعده نبي ، فهذه صفات يمدح بها. فأما إذا كان اللقب فيه شيء من التنقص، فإنه سوأة ولا يجوز التنابز به، الله تعالى ذم هذه الفعلة، فقال: { بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } . يعني: هذا الاسم، يعني: التنابز بالألقاب من أسماء الفسقة أو من أعمالهم فبئس الاسم، كونك تلقب أخاك وتدعوه أو تذكره باللقب، هذا من الفسوق. وقد عرفنا أن الفسوق هي المعاصي في قول الله تعالى: { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } فعلى المسلم أن يبتعد عن كل شيء من الفسوق. { وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } وعيد شديد؛ كأنه يقول: توبوا من هذه السخرية، وتوبوا من هذا اللمز، وتوبوا من هذا التنابز، فإذا لم يتب أحدكم واستمر على ذلك اعتبر من الظالمين سواء كان ظلما أكبر وهو الكفر، أو ظلما أصغر وهو التعدي على حقوق العباد، وظلم العباد فيما بينهم؛ فإن المظالم فيما بينهم لا بد لها من القصاص؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: { لتؤدن الحقوق } يعني حقوق العباد من بينهم: { حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء } وقال في حقوق العباد القصاص فيها لا محالة فمن اغتبته أو نبذته أو عبته أو سخرت منه أو لمزته فإنه يأخذ من أعمالك، ولا بد فعلى الإنسان أن يكون بخيلا بأعماله حتى لا يعطيها إلى أعدائه ونحوهم. الآية الثانية: قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } . جاء في الحديث: { إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث } والمراد بالظن: هو التخرص ثم يبني على ذلك الظن وذلك الخرص أشياء ليس لها حقيقة، فيسبب ذلك قطيعة بين المسلمين، ويسبب ذلك عداوة وبغضاء، ولا شك أن هذا من أمر الجاهلية، وأن هذا مما يسبب الفرقة بين المؤمنين. نذكر لذلك بعض الأمثلة؛ فقد تتهم هذا بأنه يبغضك فتبني على هذا وتقول: أظنه يبغضني فتبغضه بدون مبرر، وهذا من الظن السيئ، ما هناك أسباب يقينية تدل على أنه يحقد عليك، كذلك أيضا: قد تتهم فلانا بأنه يتنقص إخوانه ويعيبهم، فتقول: إن فلانا يتنقصكم، وإنه يؤذيكم، وإنه.. وإنه..؛ فتقع بينهم العداوة، ومبناها على ظن ليس بيقين، وكذلك أيضا: قد تظن خبرا، وليس له حقيقة، تظن، تقول: إن فلانا قد كان .. جاهلا وأنت لست عالما بجهله، فتبني على هذا الظن، ويجهلونه إن فلانا يتسرع في الفتاوى وهو ليس من أهلها، وأنت لا تعرفه فتظن ظنا، فيكون ذلك من ظن الجاهلية الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم، كذلك أيضا: قد تتهمه بأنه يغتاب أحدا، وليس كذلك فتبني على هذا الظن، وهذه التهمة التي لا مبرر لها؛ فتقع في الإثم وتقع في السوء وأنت لم تبن على يقين، أو قد ينقل لك إنسان خبرا ولا يكون صادقا بل يكون من الأعداء، فيقول: إن فلانا يبغضك فتبني على كلامه وليس بصادق، وهذا من الظن الذي هو أكذب الحديث. قد ينقل لك أن فلانا مثلا: أنه متهم في دينه وهذا ليس بصحيح؛ فتبغضه لأجل ذلك، قد ينقل أن هؤلاء أهل معصية أو أنهم يأكلون المال بغير حق أو أنهم سراق أو أنهم قطاع أو أنهم فجرة وكفرة أو أنهم ظلمة أو نحو ذلك، على أي شيء تبني هذا؟ تبنيه على الظن؛ فتفشي أخبارهم وتقول: لا تتعاملوا مع فلان فإنه غشاش مع أنه قد يكون صادقا، وقد ترتب على هذا الظن وعلى هذه الأخبار السيئة، ترتب على ذلك مفاسد كثيرة وأكاذيب كثيرة نتج عنها كفر وفسق وضلال وظلم لعباد الله الصالحين؛ وقع ذلك حتى في العهد النبوي وفي عهد الأئمة ونحوهم؛ فمثلا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أعداؤه لما كان يخالفهم في العقيدة صاروا ينقلون عنه أشياء ما قالها، فيقولون: إنه كذا وكذا، مع أن مستندهم الظن أو الأخبار الوهمية. كذلك مثلا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لما كان له أعداء أخذوا يكذبون عليه، وأخذوا يلصقون به تهما، وصدقها آخرون على طريق الظن، يعني يقولون: نظن أنه كذا وكذا، فصاروا بعد ذلك يلفقون به هذه الأكاذيب؛ تجدونها في كتب الردود التي رد بها أئمة الدعوة على أولئك وناقشوهم، وبينوا كذبهم؛ كقولهم مثلا: إنه يكفر الناس قبل ستمائة سنة يقول: كل الذين قبل ستمائة سنة كفار، وهذا من البهتان؛ معتمده الظن، ويقولون مثلا: إنه إذا جاءه أحد ليبايعه قال: اشهد على نفسك أنك كنت كافرا، واشهد على أبويك أنهما كانا كافرين وماتا على الكفر، هذا صحيح؟!! ليس بصحيح بل يعذرهم بالجهل ولا يكفر من مات، ويقول: أمرهم إلى الله تعالى. والحاصل أن الظن والتخرص أوقع كثيرين في العداوة والبغضاء ، ففشت بينهم الأحقاد، وساءت المعاملات فيما بينهم، وظهر الحسد وظهرت الشنآن والبغضاء ونحوهم، كل ذلك مبناه على أخبار وهمية ظنوها صادقة وليس لها حقيقة؛ فلذلك قال: { اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم } فالآية ليس فيها اجتناب الظن كله؛ لأن هناك ظنا قد يكون صحيحا؛ قيل في قول الله تعالى: { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } أن الظن هاهنا ظن يقين، وأما قوله تعالى: { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } فإن هذا ظن كاذب؛ ولذلك قال: { إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم } يعني: ليس كل الظن، فإذا قويت التهمة فإنك تبني عليها، ولو كان مبناها على ظن أو ظن غالب، وكذلك إذا احتفت قرائن بالخبر، وكان مبناه ظنا فإنه قد ينقلب إلى يقين، ثم في حديث عتبان بن مالك لما كان عنده النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا رجلا يقال له: مالك بن الدخشن فظن بعضهم أنه منافق، فأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، ووبخهم على ذلك، وأنكر عليهم، وذلك لأنه ليس مبناه إلا على الظن؛ كأنهم يقولون: إننا نراه يميل إلى المنافقين أو نحو ذلك، فهذا ظن خاطئ. وكذلك قصة حاطب لما كتب إلى أهل مكة يفشي إليهم خبر النبي صلى الله عليه وسلم واعتذر، أراد أن يقتله عمر وقال: إن الرجل قد نافق، مبنى ذلك على الظن: لما رأى منه هذا الفعل، ولكن قبل النبي صلى الله عليه وسلم منه، ومنع عمر من البناء على ذلك الظن؛ لأنه ظن خاطئ؛ فإذا قويت التهمة رأيت مثلا هذا يجالس الفسقة، ورأيته يبتعد عن مجالسة الصالحين، ورأيته لا يذكر الله إلا قليلا، وإذا ذكر الفسقة أثنى عليهم ونحو ذلك؛ ففي هذه الحال لك أن تبني على هذا الظن، وتقول: إنه لا يحب أهل الخير، ولو كنت لم تطلع على قلبه. يقول الله تعالى: { وَلَا تَجَسَّسُوا } التجسس والتحسس: هو تتبع الأخبار الخفية والبناء عليها؛ كأن تتبع أخبار فلان وتستمع إلى كلماته الخفية، وقد لا يحب أنك تسمع كلماته؛ تقول: فلان متهم بأنه ثوري؛ فأنا سوف أتجسس عليه وأنظر أحواله وأستمع إلى كلماته، وكذلك أيضا تقول: فلان يتهم بأنه منافق؛ فأنا سوف أتتبعه وأتحسس وأتجسس وآتيه بخفية وأنصت إلى كلامه إذا دخل بيته ونحو ذلك؛ فتجد هذا المتجسس أو هذا الجاسوس يلصق مثلا أذنه بباب صاحب هذا البيت، ويقول: أستمع إليه لعله أن يكون سبابا أو لعله أن يكون محتالا أو لعله أن يكون مبغضا لنا أو للدولة أو نحو ذلك. فهذا التجسس من الأذى ومن البناء على الظن، نحن نبني على الظاهر؛ النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبره الله تعالى عن المنافقين، ومع ذلك ما عاقبهم ولا قتلهم؛ وذلك لأنه ليس على يقين من أن هذا منافق أو هذا منافق، وإنما علمهم عند الله؛ قال الله تعالى: { وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } فأخبر بأنه لا يعلمهم، ما قال: يا فلان اذهب فتجسس عليهم، ويا فلان اذهب فتجسس عليهم؛ لأن الله تعالى نهانا: { وَلَا تَجَسَّسُوا } أي: لا تتبعوا الأخبار بخفية، إذا رأيتم الكفر ظاهرا فإنكم تعملون به وتعاملون هذا بهذا الخبر بأنه ليس بصادق في الإيمان أو نحو ذلك، وأما إذا أخفى ذلك فإياكم أن تبنوا على ما تظنون. قوله تعالى: { وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } الغيبة حرام. الغيبة هي، فسرها النبي صلى الله عليه وسلم، قال: { أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ فقال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته } . والبهتان: هو الكذب؛ { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } فهذا معنى الغيبة. إذا كنت مثلا في مجلس وأخذت تذكر فلانا، وتتكلم فيه بكلام لو كان حاضرا لما تكلمت به ولاستحييت، أو لو كان حاضرا وتكلمت به لرد عليك وقال: كذبت أو قال: ظلمتني أو نحو ذلك أو نهاك عن ذلك، فإذا كان الإنسان حاضرا مدحه بعضهم وذكروه بالثناء ونحوه، وإذا غاب أخذوا يذكرون أفعالا له سيئة ويسكتون عن أفعاله الحسنة ونحو ذلك؛ فهذا من الغيبة، وعادة المغتابين أنهم يتتبعون أخباره السيئة فيذكرونه بها ولو كانت واقعية، ويتغافلون عن أفعاله الحسنة؛ عن محاسنه، وعن فضائله وما أشبه ذلك؛ ينطبق عليهم قول الشاعر: صم إذا سمعـوا خيرا ذكـرت بـه وإن ذكـرت بسـوء عندهـم أذنـوا يعني: إذا ذكرت بالحسن وبالمدح؛ فإنهم كأنهم صم لا يذكرون ذلك ولا يفرحون به، وإذا ذكروني أو ذكرني أحد بسوء أصغوا إلى ذلك أو فتحوا آذانهم: إن يسمعوا سيئا طاروا بـه فرحـا ومـا سمعوا عني من صالح دفنـوا هذه عادة المغتابين أنهم لا يذكرون إلا المساوئ ويسكتون عن المصالح وعن الفضائل وما أشبهها، ويقول أيضا بعض الشعراء: ينسى من المعروف طـودا شامخـا وليـس ينسـى ذرة مـمـن أسـا إذا كانوا يبغضون إنسانا وله فضائل نسوها ولو كانت أمثال الجبال ولو كانت كالطود العظيم: ينسـى من المعروف طودا شامخـا وليـس ينسـى ذرة مـمـن أسـا هذه عادة أهل البغض، وعادة أهل الغيبة والنميمة ونحوهم، وتعرفون أيضا قول الشاعر: وعيـن الرضـا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المسـاويا فالغيبة: هي محرمة؛ شبهها الله تعالى بهذا التشبيه البليغ في قوله تعالى: { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ } . بئس المثل، يعني: أنك لو رأيت لحمه ميتا قد أنتن وأكلته كان ذلك أسهل من الغيبة، اغتبته فكأنك أكلت لحمه وهو ميت، والأحاديث في ذم الغيبة كثيرة؛ ذكر ابن كثير منها عددا كثيرا من الأحاديث، ولا يتهاون بأدنى كلمة؛ ففي حديث أن حفصة بنت عمر قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا تعني: أنها قصيرة فكانت هذه غيبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: { لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته } . أي: لغيرته، هذه الكلمة السهلة اليسيرة التي يتهاون فيها تعيبها بأنها قصيرة مع أنها ضرتها، وكذلك أيضا ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من إحدى نسائه أن تسمح لحفصة بشيء من نصيبها فقال... |