بسم الله الرحمن الرحيم. قال شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية رحمه الله تعالى: وأما الثاني فما أنزل الله من السور المدنية من شرائع دينه، ومن سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأمته، فإن الله سبحانه أنزل عليه الكتاب والحكمة، وامتن على المؤمنين بذلك، وأمر أزواج نبيه بذكر ذلك فقال: { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } وقال: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } وقال: { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } . قال غير واحد من السلف: الحكمة هي السنة؛ لأن الذي كان يُتْلَى في بيوت أزواجه رضي الله عنهن سوى القرآن هو سننه صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: { ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه } . وقال حسان بن عطية كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسنة كما ينزل بالقرآن، فيعلمه إياها كما يعلمه القرآن. وهذه الشرائع التي هدى الله بها هذا النبي وأمته مثل الوجهة والمنسك والمنهاج، وذلك مثل الصلوات الخمس في أوقاتها بهذا العدد، وهذه القراءة، والركوع، والسجود، واستقبال الكعبة، ومثل فرائض الزكاة ونُصُبِهَا التي فرضها في أموال المسلمين من الماشية والحبوب والثمار والتجارة والذهب والفضة، ومن جعلت له؛ حيث يقول: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ومثل صيام شهر رمضان، ومثل حج البيت الحرام، ومثل الحدود التي حدها لهم في المناكح والمواريث والعقوبات والمبايعات. ومثل السنن التي سنها لهم من الأعياد والجمعات والجماعات في المكتوبات، والجماعات في الكسوف، والاستسقاء، وصلاة الجنازة، والتراويح، وما سَنَّهُ لهم في العادات مثل المطاعم والملابس، والولادة والموت، ونحو ذلك من السنن، والآداب، والأحكام التي هي حكم الله ورسوله بينهم في الدماء، والأموال، والأبضاع والأعراض، والمنافع والأبشار، وغير ذلك من الحدود والحقوق؛ إلى غير ذلك مما شرعه لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. وحَبَّبَ إليهم الإيمان، وزينه في قلوبهم، فجعلهم متبعين لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وعصمهم أن يجتمعوا على ضلالة، كما ضلت الأمم قبلهم؛ إذ كانت كل أمة إذا ضلت أرسل الله تعالى رسولا إليهم، كما قال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وقال تعالى: { وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ } ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء لا نَبِيَّ بعده، فعصم الله أُمَّتَهُ أن تجتمع على ضلالة، وجعل فيها من تقوم به الحجة إلى يوم القيامة؛ ولهذا كان إجماعهم حجةً، كما كان الكتاب والسنة حجة. ولهذا امتاز أهل الحق من هذه الأمة والسنة والجماعة عن أهل الباطل الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب، ويُعْرِضُون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعمَّا مَضَتْ عليه جماعة المسلمين، فإن الله أمر في كتابه باتباع سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم سبيله، وأمر بالجماعة والائتلاف ونهى عن الفرقة والاختلاف، فقال تعالى: { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } وقال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } وقال تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وقال تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } وقال تعالى: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } وقال تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } وقال تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } وقال تعالى في أُمِّ الكتاب: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } . وقد صَحَّ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: { اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون } فأمر سبحانه في أُمِّ الكتاب؛ التي لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزَّبُور ولا في القرآن مثلها، التي أُعْطِيها نَبِيُّنا صلى الله عليه وآله وسلم من كَنْزٍ تحت العرش، والتي لا تُجْزِئُ صلاة إلا بها؛ أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم كاليهود، ولا الضالين كالنصارى، وهذا الصراط المستقيم هو.... سمعنا كلامه رحمه الله يتعلق بعدما ذكر القرآن ذكر السنة، فهنا يتعلق كلامه بالسنة النبوية، فإن السنة حُجَّةٌ على الأمة؛ وذلك لأن الله تعالى كَلَّفَ نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يُبَيِّنَ للناس ما نُزِّلَ إليهم: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } فسنته عليه الصلاة والسلام بيان للشريعة، وتوضيح وشرح لِمُجْمَلَات القرآن؛ لأن القرآن أُجْمِلَتْ فيه الأوامر، ثم فُصِّلَتْ في السنة النبوية. فمثلا: يأمر الله تعالى بالصلاة في القرآن: { وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ } { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } ذكر الله من أركانها الركوع والسجود في قوله تعالى: { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } وذكر القيام: { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا } . ذكر الله الصلاة، وذكر ثلاثة من أركانها: القيام، والركوع، والسجود، وجاءت السنة فَبَيَّنَتْهَا. لم يذكر في القرآن أن الصلوات خمس: ظهر عصر مغرب عشاء فجر، لم يُذْكَرْ في القرآن أن صلاة الظهر أربع، وأن صلاة المغرب ثلاث، وأن صلاة الفجر ركعتان، ما ذُكِرَ هذا إلا في السنة. لم يُذْكَرْ في القرآن ما يقال في الركوع، ولا ما يقال في السجود، ولا مقدار الركوع وصفته، وكذلك ما يقال بين السجدتين، ولا ما يقال بعد الرفع من الركوع، ولا مقدار القراءة التي تُقْرَأُ في القيام. ذُكِرَ هذا في السنة. إذن فالسنة تُفَسِّرُ القرآن، وتُبَيِّنُهُ، وتَدُلُّ عليه، وتُعَبِّرُ عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم مُكَلَّفٌ بالبلاغ: { بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } . |