وهذا كله في بيان أن ما جاء به وما بلغه هو المرجع. فالذين يقدمون أقوال مشائخهم على قول الله ورسوله ما صدَّقُوا بالشهادة، وكذلك الذين يُقَدِّمُون مذاهبهم في الفروع فضلا عن الأصول؛ الذين يقدمون الآثار التي في كتب أئمتهم، وفي كتب مشائخهم وعلمائهم، ويتركون السنة الصريحة التي صحت عن نبيهم صلى الله عليه وسلم؛ لا شك أيضا أنهم ما صدقوه غاية التصديق، ولا اتبعوه. لو اتبعوه لما قدموا على قوله قول فلان، أو قول فلان؛ سواء في الأصول أو في الفروع، ولكن الأصول أشد. فالذين مثلا يقولون قول الإمام الأشعري أبي الحسن العالم الجليل، نعتبره قدوة، ونقلده ونسير عليه ونتقبله، ثم يَرُدُّون قول الله، وقول رسوله القول الصريح.. هؤلاء ما صدقوا في شهادتهم لمحمد بالرسالة، وكذلك الذين يُقَدِّمُون أقوال أتباعهم الذين يتبعونهم في العقائد أو في الفروع؛ مثل أتباع أبي الهذيل أو أتباع الجاحظ أو أتباع الْجُبَّائِيِّ من علماء المعتزلة. وكذلك الذين اتبعوا النقشبندي أو التيجاني ونحوهم من المتصوفة؛ كل هؤلاء ما صدقوا في أنهم يشهدون أن محمدا رسول الله؛ بل يصدق عليهم أنهم فارقوا الدين، وأنهم فَرَّقُوه؛ ولهذا استشهد المؤلف رحمه الله بالآيات التي فيها النهي عن التفرق في الدين فيها في قراءة: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا } هكذا قرأها بعضهم، وقرأها آخرون: (إن الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء) يعني: أنت بريء منهم، وليسوا من أمتك، سواء فارقوه أو فرقوه، فرقوه يعني: أخذوا بعضه دون بعض، أخذوا بعض الرسالة وتركوا بعضها، { لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } وكذلك قوله في سورة الروم: { وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } فإن هذا أيضا صريح في أنهم فَرَّقُوا دينهم، وأنهم صاروا بذلك من المشركين. وكذلك استشهدوا بالآيات التي فيها النهي عن الاختلاف، مثل قوله تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } إلى قوله: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } اختلفوا؛ تفرقوا، وكانوا أحزابا. هؤلاء يقولون: نحن أتباع الجبائي وهؤلاء أتباع الجاحظ وهؤلاء أتباع أبي الهذيل العلاف وهؤلاء، وهؤلاء..! صاروا فرقا { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } دين الله تعالى واحد؛ ولهذا في عهد الصحابة ما كان هناك فِرَقٌ؛ بل كل الصحابة على مِلَّةٍ واحدة، ولو اختلفوا في الفروع فإنهم مجتمعون؛ ولذلك يؤمرون بالاتباع. الآيات التي فيها الأمر بالاتباع يراد بها اتباع السنة، مثل قوله تعالى: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } الذي أنزل إليهم من ربهم هو الكتاب والسنة، قد سمعنا أن السنة تنزل كما ينزل القرآن، وأن جبريل يعلمه السنة كما يعلمه القرآن: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } . وكذلك الآية التي سمعنا، وهي قوله تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ } جعل الله الدين هو الصراط المستقيم { فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ } السبل هي الطرق المنحرفة عن يمينه، وعن شماله، { فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } فالإسلام هو الصراط؛ الطريق المستقيم الذي نسأل ربنا في صلاتنا من سورة الفاتحة، التي لا يُعْذَرُ أحد بحفظها وقراءتها في صلاته: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } الصراط الطريق، وفُسِّرَ بأنه الإسلام، أو القرآن، أو الرسول، والْكُلُّ حَقٌّ، فإن الإسلام هو الدين الذي جاء به الرسول، وهو الدين الذي دَلَّ عليه القرآن، فهو الصراط المستقيم الذي مَنْ سار عليه نجا. الصراط المستقيم. ثم فسره بقوله: { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } أي صراط الْمُنْعَم عليهم؛ أهل النعمة، والنعمة التي يذكرها الله تعالى هي نعمته بالفضل وبالهداية: { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يعني: هديتهم وسددتهم ووفقتهم. وقد ذكر الله تعالى الْمُنْعَمَ عليهم في قوله: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ } هؤلاء هم الْمُنْعَم عليهم، فالذي يطيع الله ويطيع الرسول، ويسلك الصراط السوي يُعْتَبَرُ معهم؛ مع هؤلاء. يعني: وإن كان في بلدة وحده وهم في برِّية، فإنه معهم بالعمل. { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } أي: جَنِّبْنَا طريق المغضوب عليهم، وطريق الضالين. في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: { اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون } فاليهود أخصّ بالغضب، والنصارى أخصّ بالضلال، مع أن الجميع مغضوب عليهم وضالون، فالإنسان المسلم إذا سأل الله تعالى في صلاته؛ طلبه أن يرزقه التمسك بطريق أهل النعمة الذين تفضل عليهم بهذه النعمة. وكذلك يُجَنِّبُهُ الطرق المنحرفة التي هي طرق أهل الغضب، وطرق أهل الضلال، ويعم ذلك جميع الْفِرَقِ الذين ما ساروا على طريقة الرسول، فإنهم مغضوب عليهم أو ضالون. يعني: متشبهون باليهود، ومتشبهون بالنصارى، فالذين معهم علم ولم يعملوا به من هذه الأمة يُلْحَقُون باليهود، والذين يتخبطون في الجهل ويتعبدون بالضلال يُلْحَقُون بالنصارى، وكلٌّ منهم يستحق الغضب والضلال، والعياذ بالله. |