............................................................................... ثم ذكر أيضا أن أهل السنة وسط في أسماء الإيمان والدين بين طائفتين؛ طائفة غلت وطائفة جفت. الطائفة التي غلت تسمى الوعيدية، والطائفة التي جفت تسمى المرجئة. الوعيدية هم المعتزلة وهم الخوارج؛ هؤلاء صاروا يكفرون بالذنوب، أو يخرجون المذنب من الإيمان، فمن أذنب ذنبا فإنه عندهم ليس بمؤمن؛ الخوارج يجعلونه كافرا، ويستحلون دمه وماله وسبي نسائه وأولاده، ويشبهونه بالكفار. وأما المعتزلة فلا يجعلونه كافرا، ولكن لا يجعلونه مؤمنا؛ بل هو في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن لا كافر. هذا حكمه في الدنيا عندهم، وأما حكمه في الآخرة فهم جميعا كالخوارج؛ يخلدون أصحاب الكبائر في النار. يحكمون بأنهم في النار مخلدون، وينكرون الشفاعة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ادخر شفاعته لأمته في الآخرة لتنال من لا يشرك بالله شيئا؛ ينكرون كالخوارج إخراج أحد من النار بعد أن يدخلها، ويحكمون بالتخليد لكل عاصٍ. فهؤلاء في طرف. يعني: غلوا في العذاب وغلوا في التكفير، وذكروا أنهم لما اعتقدوا هذه العقيدة خلى بينهم الشيطان وبين الأعمال، فصاروا يكثرون من التعبدات ومن النوافل ومن القربات؛ لأنهم اعتقدوا هذه العقائد، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بشيء من اجتهادهم بقوله: { يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم } يعني لكثرة أعمالهم. أما الطائفة الثانية: فهم المرجئة، وهم الذين يدعون أن المعاصي لا تضر العاصي، ويقيسون المعاصي مع الإيمان على الطاعات مع الشرك، ويقولون: إذا كان المشرك لا تقبل منه الطاعات والعبادات والقربات؛ فكذلك المؤمن لا تضره المعاصي ولا المخالفات ولا كثرة السيئات والخطيئات، ويعتمدون على آيات الرحمة، وينسون آيات العذاب، ويقول قائلهم: فكثِّـر ما استطعت من المعاصي إذا كان القدوم على كريم كأنه يدعو إلى المعاصي؛ يقول: أكثر من الذنوب، أكثر من المعاصي، وقرأ بعضهم قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } فقال: غرني كرمه. الجواب كان اللائق بالكريم أن تحترم أوامره، ولا تنخدع بكرمه ولا بعفوه ولا برحمته؛ إذا تذكرت أنه واسع الرحمة، فتذكر أنه شديد العقاب؛ ولأجل ذلك يجمع الله بين الوعد والوعيد كقوله تعالى: { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } أول الآية رد على الخوارج، وآخرها رد على المرجئة، ومثله قوله تعالى: { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } ومثله قوله تعالى: { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ } فجمع بين الوعد والوعيد. فنحن أهل السنة وسط بين الطائفتين؛ يقولون: إن المعاصي تضر العاصي، وإنها قد تهلكه، ولكن قد يغفرها الله تعالى، وقد يعذبه عليها، وقد يدخله النار، ثم يخرجها منها بشفاعة الشافعين، أو برحمة أرحم الراحمين فلا يرخصون في المعاصي. والأحاديث كثيرة في وعيد العصاة، كما أن الأحاديث كثيرة في وعد المطيعين؛ فإذا سمعنا أدلة الوعد قوي فينا الرجاء، وإذا سمعنا أدلة الوعيد قوي فينا الخوف، فنكون دائما جامعين بينهما بين الخوف والرجاء؛ يكون المؤمن خائفا من ذنوبه، وراجيا لرحمة ربه. فمن اعتمد على الرجاء وحده فهو مرجئ، ومن اعتمد على الخوف وحده فهو خارجي، ومن جمع بينهما فهو من أهل السنة؛ الجمع بينهما. يقول الله تعالى: { وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } خوفا؛ هذا الوعيد، وطمعا؛ هذا الوعد. ومثله قوله تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } جمع بين الرجاء والخوف { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } فهؤلاء هم الذين توسطوا بين المرجئة وبين الخوارج. وقد توسع العلماء في الرد على الطائفتين، ولعله يأتينا أيضا زيادة كلام في ذلك. |