تعبد النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء ونزول الوحي عليه

............................................................................... (ثم حبب إليه الخلاء) الخلوة، حبب إليه أن يخلو ويتعبد، (فكان يخلو بغار حراء ويتحنث فيه وهو التعبد ) التحنث هو التعبد؛ بمعنى أنه يصعد إلى ذلك الجبل المعروف بحراء وفي قمة الجبل غار موجود، هذا الغار فيه ظل فيكون في ذلك الغار، ويتزود؛ يأخذ معه زادًا من الطعام ونحوه، ويمكن أنه أيضًا يحمل معه ماء أو ينزل مطر فيستنقع هناك فيشرب منه، يتحنث فيه الليالي ذوات العدد، التحنث التعبد، يمكن أن تعبده بالذكر أو بالأفكار، يكثر ذكر الله تعالى ويتفكر؛ يتفكر في خلق الله، ويتفكر في آياته، وهذا من التحنث الذي هو التعبد، يمكث على ذلك أسبوعًا أو خمسة أيام أو نحو ذلك، ثم يرجع ويتزود بمثلها، يأخذ زادًا ثم يرجع، وتحبب إليه الخلوة هنالك. مازال كذلك حتى فجأه الحق وهو في غار حراء ؛ يعني نزل عليه الوحي لأول مرة، حيث جاءه الملك، يمكن أنه جاءه في صورة إنسان، فلما جاءه قال له: اقرأ؛ يعني أمره بالقراءة، وكان صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب، فقال: { ما أنا بقارئ } أي لست أحسن القراءة؛ لأن الله تعالى اختار أن يكون أميًا لا يقرأ ولا يكتب؛ حتى لا يقول الأعداء إنه نسخ هذا القرآن من كتب من قبله كما قالوا: { أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } فقال الله تعالى: { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } يعني لو كنت تخطه أو تكتب أو تقرأ في الكتب لاتهموك بأن هذا القرآن أخذته من كتب الأولين؛ ولكن حيث كان لا يقرأ ولا يكتب وجاء بهذا القرآن العظيم الذي لا يمكن أن يحفظه ويأتي به أحد إلا من الله دل على أنه وحي من الله. فالحاصل أن الملك قال له: اقرأ. فقال: ما أنا بقارئ أي لا أحسن القراءة، ثم إنه غطه؛ يعني غمه وغط نفسه حتى يقول: بلغ مني الجهد. يعني أجهدني بضيق النفس، يقول: فأرسلني. يعني تركني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. يعني لا أحسن القراءة، هذه المرة الثانية، فيقول: ثم غطني الثالثة أو الثانية فقال بعدما بلغ منه الجهد أرسلني فقال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } قرأ عليه أول هذه السورة إلى قوله: { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } فهذه أول ما نزل عليه أول هذه السورة. وفيها دليل على أن الله تعالى هو الذي علم الإنسان، وهو الذي خلقه، أشير في هذه الآية إلى أنه الخالق سبحانه، { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } ؛ يعني الخالق وحده الذي { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } ؛ يعني ابتدأ خلق الإنسان من العلقة، العلقة هي هذه النطفة التي تعلق في الرحم، أو التي هي مثل العلقة القطعة من الدم، يعني كان مبدأ خلقه من النطفة، ثم إن النطفة تكون علقة أي قطعة من الدم تعلق أي تلتصق بالرحم، هذا مبدأ خلقه، كأنه يقول: تذكر أن ربك الذي خلق الإنسان، وابتدأ خلقه من هذه العلقة، وتذكر بعد ذلك أن ربك هو { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } يعني ألهم الإنسان أن تعلم هذه الكتابة وهذه القراءة، الكتابة بالقلم، ثم قراءة ما يكتب بالقلم، { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } ألهمه عدد هذه الحروف التي يتكلم بها، وبعد ذلك ألهمه أن جعل لكل حرف صورة، ثم يوصل بعض الحروف ببعض إلى أن تنطق بها كلمة إذا قرأ بها، إذا قرأها قرأ الكلام الذي يتكلم به. لا شك أن هذا دليل على فضل الكتابة وعلى فضل القراءة، حيث افتتح الله تعالى هذه السورة بالأمر بالقراءة مرتين (اقرأ) وكذلك على فضل الكتابة، وأن الله تعالى هو الذي ألهم الإنسان وعلمه هذه الكتابة، فعلمه ما لم يكن يعلم، لولا أن الله ألهمه ما تعلم ذلك، ففيه فضل العلم وفضل التعلم، وأن تعلم الكتابة والقراءة من مبادئ العلم.