نعود فنقول: إن صفة السمع صفة كمال، السمع يطلق على إدراك الأصوات؛ كل من يوصف بإدراك الأصوات فإنه يسمى سميعا، فإذا كانت المخلوقات الحية المتحركة من كمالها أنها تسمع الأصوات؛ فلا يمكن أن الذي خلقها يكون فاقدا لهذه الصفة؛ فإن ذلك يكون تفضيلا للمخلوق على الخالق، الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالسمع في القرآن -في الآيات الكثيرة-؛ فذكره بالاسم، وبالفعل الماضي، وبالفعل المضارع، بلفظ الجمع، وبلفظ الإفراد، مثال ذلك قوله تعالى: { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } هذا ذكر بلفظ الماضي { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ } ومثله: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } هذا ذكر بلفظ الماضي، ثم ذكر أيضا بلفظ المضارع في قوله: { وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا } بلفظ المضارع "يسمع"، ثم ذكر بالاسم في قوله: { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } فتنوع ذلك يدل على الإدراك للأصوات . وتقول عائشة رضي الله عنها: سبحان من وسع سمعه الأصوات؛ لقد جاءت المجادلة تجادل النبي صلى الله عليه وسلم وأنا في جانب الحجرة، وإنه ليخفى علي بعض كلامها؛ حتى أنزل الله { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } وهي امرأة أوس بن الصامت وهي التي استوقفت عمر رضي الله عنه مرة؛ فلامه بعض أصحابه وقالوا: كيف أطلت الوقوف مع هذه المرأة؟ فقال: هذه هي التي سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، يعني: أنه أجابها لما اشتكت ويطلق السمع على الإجابة، يعني: استجاب، فقول المصلي: سمع الله لمن حمده، ليس المراد هنا إدراك الأصوات؛ وإنما المراد سمع سَماعَ إجابة أي: سمعهم ليجيب من حمده على حمده له ويثيبه، يجيبهم ويثيبهم، فيكون السماع هنا سماع الكلام الذي يلزم منه الإجابة، وفي الورد الذي اشتهر قول : حسبي الله وكفى، سمع الله لمن دعا، يعني: سَِمع سمْع استجابة . وفي دعاء الاستعاذة: " نعوذ بالله من عين لا تدمع وقلب لا يخشع ودعاء لا يسمع " أي: لا يسمع سماع استجابة، أي: لا يسمعه الله سماع إجابة، ويكون أيضا من آثار سمع الله تعالى لكل شيء حصول مراقبة العباد لربهم، فإن العبد الذي يستحضر أن الله تعالى يسمعه لا بد أنه يراقبه ويستحضر أيضا أن ربه تعالى سوف ينصره إذا استنصره، ويعطيه إذا سأله، ويجيبه إذا دعاه، يدل على ذلك قول الله تعالى لموسى وهارون { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } وهذا جاء بلفظ المضارع، أسمع وأرى، فمعنى ذلك أنني سوف أنصركم لأني أسمع ما تقولونه وما يقال لكم، ومن كان كذلك فإنه لا يخاف أن يغلب، إذا كان الله تعالى معه؛ فإنه يسمع كلامه سماع إجابة، وينصره إذا اعتدي عليه، ويكون أيضا من فوائد استحضار سمع الله تعالى أن يراقب العبد ربه؛ فلا يقدم على معصيته بأية كلمة وهو يتحقق أنها في سمع الله تعالى، ولذلك قال الله تعالى: { الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } وغير ذلك من الآيات. ونعتقد مع ذلك أن ربنا سبحانه يسمع كما يشاء، وليس بحاجة إلى الأدوات التي يسمع بها الإنسان، لا نتكلم فيها؛ فلا نقول: إن السمع يحتاج إلى الأذن، وإن الأذن لا بد أن يكون فيها أصمخة وفيها فتحات وفيها طبلات، وفيها وفيها، هذا كله لا يجوز الخوض فيه؛ لأنه لم يرد؛ حيث أثبت الله تعالى لنفسه أنه سميع وأنه بصير، ومع ذلك ما ذكر لنا صفة أو آلة السمع -كما نعرف-؛ بل أثبت لنفسه صفة السمع كما يشاء، فالذين يردون هذه الصفة يقولون: إن السمع يحتاج إلى أجهزة، أجهزة السمع التي تكون في الحيوان، والجواب: أنا لا نخوض في مثل هذا، وأما الحديث الذي فيه { أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ قول الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } { إن اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } لما قرأها وضع أصبعيه على عينيه وأصبعيه على أذنيه } فليس المراد سميعا بصيرا كعينين مثل أعيننا، وأذنين كآذاننا؛ وإنما مراده حقيقة السمع وحقيقة البصر، أي: كما أنكم تسمعون من هنا، وتبصرون من هنا، فالله سميع بصير؛ أي: كما أن العينين آلة للبصر: والأذنين آلة للسمع . فكذلك الله تعالى سميع سمعا حقيقيا، وبصير بصرا حقيقيا، فلا يجوز تشبيه صفة من صفات الله تعالى بما يختص بالآدميين ولا بما يختص بسائر الحيوانات؛ لأن الله تعالى نزه نفسه عن مشابهة المخلوقات بقوله: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } فمع إثباته للسمع والبصر نفى المثلية أو المماثلة، وهذه الآية أو بعض آية رد على الطائفتين، فقوله: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } رد على الممثلة، وقوله: { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } رد على المعطلة، ولهذا ثقل آخرها على الجهمية ونحوهم، حتى روي: أن بعض المعطلة أظنه ابن أبي دؤاد اقترح على بعض الخلفاء يمكن أنه المأمون أن يكتب على كسوة الكعبة "ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم " يعني حتى لا يكون في الآية إثبات صفة السمع والبصر؛ فاعتذر بأنه يكون قد غير كلام الله تعالى، فالله تعالى ليس كمثله شيء؛ مع أننا نثبت له هذه الصفة التي هي صفة السمع وصفة البصر؛ وذلك لأنها صفة كمال. ثم من صفات السمع أن الله تعالى يسمع كل شيء، يقول في بعض الآثار: "إن الله يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة السوداء في الليلة الظلماء" دبيبها يعني: حركة وطئها بأقدامها؛ يسمع ذلك، ثم كذلك من خصائص الله تعالى أنه يسمع الأصوات ولا تشتبه عليه اللغات ولا تغلطه كثرة المسائل مع اختلاف اللغات وتفنن المسئولات، ففي اللحظة الواحدة يسأله مئات الألوف، وكل منهم يسأل حاجته، وقد يكونون بلغات متعددة؛ مئات اللغات وألوف اللغات، ومع ذلك لا تغلطه كثرة المسائل؛ مع اختلاف اللغات وتفنن المسئولات ؛ فيسمع كلهم في آن واحد، ويجيب من يريد إجابته منهم، ويعطيه طلبته، ولا تشتبه عليه الأصوات مع اختلافها في آن واحد، المخلوق أنت مثلا إذا تكلم أمامك اثنان أو ثلاثة فقد لا تميز كلام هذا من هذا إذا كانوا يتكلمون في آن واحد؛ كل واحد يوجه خطابه إليك؛ فإنه يلتبس كلام هذا بكلام هذا، ويشتبه بعضهم ببعض أما الخالق تعالى فإنه يسمع الجميع ولا يشتبه عليه كلام أحد بكلام الآخر، وذلك دليل على ما اختص به الرب سبحانه وتعالى في أنه يسمع كلام عباده ويجيبهم ويعطيهم ما سألوه، فهذه فائدة إيمان العبد بأن الله تعالى وسع سمعه الأصوات. |