كذلك أيضا من الأدلة صفة الرفع لا يكون الرفع إلا من الأدنى إلى الأعلى لا يكون إلا إلى فوق، وقد أثبته الله تعالى أنه يرفع إليه، وأثبته النبي صلى الله عليه وسلم. ففي القرآن قول الله تعالى لعيسى { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } كان عيسى في الأرض. يقول الله: { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } فرفعه الله إلى السماء، وذلك الرفع لا يحتمل التأويل، { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } ومثلها قوله تعالى: { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } في سورة النساء. المعطلة يقولون: رفعه إلى مكان الشرف، أو رفعه إلى حيث لا يتصرف إلا هو، فيؤولونها ويصرفونها عن مدلولها مع صراحة الآية، { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } وكذلك في القرآن قول الله تعالى: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } يرفعه يعني: إليه. وقد تأولها بعض المتأولين بمعنى يقبله، يرفعه يعني: يقبله، ولا شك أن هذا تغيير لمعنى الآية، وأنه إبطال لدلالتها؛ فلا يستعمل يرفعه بمعنى يقبله إلا استعمالا بعيدا. ومن الأدلة من السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: { إن الله يبسط يده } أو قوله: { يمين الله ملأى } ثم قال: { يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل } يرفع إليه؛ فالرفع إليه دليل على مكان على العلو، ودليل على إثبات أنه أعلى من خلقه وأن الأعمال ترفع إليه. وكذلك الآية التي ذكرنا: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } الصعود والمصعد هو الذي يرقى فيه كما هو معروف. المصاعد التي يصعد فيها إلى أعلى، أخبر بأنه يصعد إليه { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } يعني: يرقى ويرتفع الكلم الطيب، والأدلة من السنة أيضا كثيرة في إثبات الصعود إليه. وكذلك من الأدلة أيضا العروج في قوله تعالى: { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ } العروج أيضا لا يكون إلا إلى أعلى. وكذلك قوله تعالى: { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } دليل على أنها تعرج يعني: ترتفع إليه الملائكة { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ } فلا يمكن تأويل مثل هذه الأدلة مع صراحتها. كذلك أيضا من الأدلة آيات النزول، فإن الله تعالى أثبت أنها تنزل منه فقوله تعالى: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } النزول لا يكون إلا من أعلى { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ } { مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ } تنزيل منزل من ربك { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } { حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } فالتنزيل والنزول لا يكون إلا من الأعلى إلى ما تحته. فالأرض -بلا شك- أنها تحت السماء كما هو مشاهد وإذا عرفنا أن الملائكة تنزل من الله، وأن الوحي ينزل من الله فإن ذلك دليل على أن الله تعالى فوق عباده، وأن هذه تنزل منه. والآيات التي في الإنزال كثيرة معلومة. ومن الأدلة أيضا قصة فرعون فإن الله أرسل إليه موسى فأنكر الله؛ لما قال: أنا رسول رب العالمين، قال فرعون وما رب العالمين ؟ فأخذ يقرر عليه موسى { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ } { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا } فهو منكر ولا بد أنه سأل موسى أين رب العالمين الذي تدعي؟ ، فموسى أخبره بأنه في السماء، وأنه فوق عباده؛ فلأجل ذلك بنى الصرح { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } وفي آية أخرى دعاه فقال: { فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ } يعني: طينا محكما { ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ } يعني: الوسائل التي أصعد بها إلى السماء، الوسائل يعني المصاعد { لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } ولو كان موسى قال له: إن الله ليس في السماء، أو قال له: إن الله في كل مكان لما تكلف، لقال له موسى اطلب الله في الأرض وفي الجبال وفي الأماكن كلها؛ فدل على أنه تلقى من موسى أن ربنا سبحانه فوق السماوات العلى؛ فلذلك حاول أن يصعد إلى السماوات ليطلع ويعرف هل موسى محق أم لا؟ ولذلك قال: { وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ } فهذا من جملة الأدلة على أن الأنبياء بلغوا أممهم، أن الله تعالى فوق عباده وأنه فوق السماوات. ومن الأدلة أيضا ما ذكر الله أنه في السماء آيتان في سورة الملك { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ } { أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } وكلمة السماء صريحة في العلو، أهل السنة يقولون: من في السماء يعني: من في العلو، فإن كل ما ارتفع يسمى سماء، من في السماء يعني: من في العلو، ويقول بعضهم: إن "في" بمعنى على، من في السماء يعني: من على السماء، وتأتي هذه الكلمة بدل "على" كقوله تعالى: { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ } أي على الأرض، وكقول فرعون { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } أي: على جذوع النخل. وليس معناه أنه ينحت لهم فيها، ويدل على أن "في" بمعنى "على"، من في السماء أي: من على السماء. ومن الأدلة ما ورد أنه صلى الله عليه وسلم عرج به إلى السماء. الأحاديث كثيرة ذكر كثيرا منها ابن كثير في أول سورة الإسراء، واستقر معتقد أهل السنة أنه صلى الله عليه وسلم عرج بروحه وجسده إلى السماء، وأنه كلم ربه، وأنه فرض عليه الصلوات الخمس. ودليل ذلك من القرآن قوله تعالى: { ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى } { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } { ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } فأخبر بأنه علمه وهو بالأفق الأعلى، أي: فوق السماوات العلا، وأنه قربه { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } في تفسير هذه الآيات ما يدل على أنه يراد أن الله تعالى قربه، وأنه علمه، وأنه كان قاب قوسين وأنه رفعه، { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } هذا أيضا من الأدلة الواضحة على إثبات صفة العلو لله تعالى، وأنه يقرب إليه من شاء من عباده.كذلك من السنة الأدلة التي أثبتها أئمة السنة بلفظ الفوقية، وبلفظ السماء ونحو ذلك؛ مثل قوله صلى الله عليه وسلم: { ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء. يأتيني خبر السماء صباحا ومساء } من في السماء يعني من على السماء، وكذلك: { ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء } فدلالتها واضحة في أن الله تعالى في السماء أي على السماء. وفي حديث الأوعال قوله صلى الله عليه وسلم لما ذكر ارتفاع السماوات وأن كثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، قال بعد ذلك: { وفوق ذلك ثمانية أوعال } يعني: حملة العرش ما بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء يعني: ما بين مواطئ أقدامهم إلى الركب مسيرة خمسمائة سنة، ثم قال: { والعرش فوق ذلك والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه } صريح في قوله والله فوق العرش، وهذا الحديث طعن بعضهم بأن في إسناده عبد الله بن عميرة وأنه قد قالوا: إنه ينفرد ببعض الغرائب ولكن ذكر شيخ الإسلام أنه رواه إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة كتابه، كتاب التوحيد المطبوع. وقد اشترط في أوله ألا يذكر إلا الأحاديث الصحيحة من غير قطع في أسانيدها، ولا طعن في رواتها، فالحديث صحيح عند ابن خزيمة ولم يقدح فيه كونه عن عبد الله بن عميرة لذلك يقبل هو ويقبل أمثاله. وورد في السنة في صعود الأرواح في روح المؤمن أنه قال: { حتى يصعد بها إلى السماء التي فيها الله } يعني: فوقها، فأثبت بأنه يصعد بها إلى السماء إلى أعلى سماء، دليل واضح على أن الله تعالى فوق السماوات العلا. ثم قد يقال: إن هذه تخالفها آيات المعية. |