............................................................................... ولما بين جل وعلا أنه أنزل هذا الكتاب العظيم على هذا النبي الكريم، وأنه أنزله عليه لينذر به ويذكر، وأنه يجب على أمته أن تأتسى به في الإنذار بالقرآن والتذكير به. أمر من ذكروا وأنذروا -أمرهم بما ينبغي أن يفعلوا حول ذلك الإنذار والتذكير الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } ؛ هذا الأمر للوجوب بإجماع العلماء. وصيغة "افعل" وإن اختلف فيها علماء الأصول هل هي تقتضي الوجوب؟ أو تقتضي الندب؟ أو تقتضي مطلق الطلب الصادق بالندب والوجوب؟ أو إن كانت في القرآن اقتضت الوجوب؟ وإن كانت في السنة اقتضت الندب؟ هذه الأقوال -وإن ذكرها علماء الأصول-؛ فالصحيح المعروف الذي دل عليه الشرع الكريم واللغة التي نزل بها القرآن أن صيغة "افعل" إذا جاءت في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم كانت مقتضية لوجوب الامتثال، إلا أن يدل دليل آخر خارج عن ذلك الوجوب. ويكون ذلك الدليل يجب الرجوع إليه، والأدلة على هذا كثيرة منها أن الله لما قال للملائكة: { اسْجُدُوا لِآدَمَ } كانت لفظة { اسْجُدُوا } صيغة أمر، وهي لفظة "افعل"، ومعروف أن المقرر في المعاني وفي أصول الفقه أن الصيغ الدالة على الأمر التي تقتضي الوجوب -أنها أربع صيغ لا خامسة لها. الأولى منها: فعل الأمر الصريح نحو: { أَقِمِ الصَّلَاةَ } وقوله هنا: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } والثاني: اسم فعل الأمر نحو { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ } . والثالث: الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر نحو: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } . والرابعة هي المعروفة عند النحويين بالمصدر النائب عن فعله نحو قوله: { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ } ؛ يعني فاضربوا رقابهم، وكقول هند بنت عتبة يوم أحد لما انهزم المشركون هزيمتهم الأولى، وقتل حملة اللواء من بني عبد الدار، وبقي لواء قريش طريحا حتى رفعته عمرة بنت علقمة الحارثية التي يقول فيها حسان ولولا لواء الحارثيـة أصبحــوا يباعون في الأسواق بيع الجلائـد عند ذلك قالت هند بنت عتبة بنت ربيعة العبشمية صـــبرا بنــي عبـــد الـــدار صـــبرا حـمــــاة الأدبــــار ضـربـــــا بـكـــل بـتـــار فكل هذه المصادر مصادر نابت عن أفعالها؛ ففيها معنى الأمر؛ تعني اصبروا يا بني عبد الدار، واضربوا بكل بتار، هذه هي صيغ الأمر. وقد دل القرآن والسنة ولغة العرب على أن صيغة "افعل" تقتضي الوجوب. ومن الدليل على ذلك أن الله لما قال للملائكة: { اسْجُدُوا لِآدَمَ } كانت { اسْجُدُوا } صيغة "افعل" فلما امتنع إبليس وبخه وحكم عليه بالعصيان وقال: { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } ؛ موبخا له؛ فدل على أن عدم امتثال صيغة الأمر أنه معصية. ويؤيد ذلك أن نبي الله موسى قال لأخيه هارون لما أراد السفر إلى الميقات -قال لأخيه: هارون { اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ } وهذه صيغة أمر؛ فلما ظن أنه لم يتبعها قال: { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } وصرح بأن مخالفة صيغة "افعل" معصية . ومن الأدلة على ذلك أن الله يقول: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وقد قال جل وعلا: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } وفي القراءة الأخرى "أن يكون لهم الخيرة من أنفسهم". ومن قضائه للأمر هو أن يقول: "افعل" كذا. فدلت آية الأحزاب هذه على أن أمره تعالى قاطع للاختيار موجب للامتثال والأدلة في هذا كثيرة. ووجه دلالة اللغة العربية على أن صيغة "افعل" تقتضي الوجوب: أن السيد المالك لعبد لو قال لعبده: "اسقني ماءً" فامتنع العبد ولم يسق سيده فأدبه وضربه. أما عامة أهل اللسان يقولون: إن هذا العقاب واقع موقعه، فلو قال العبد للسيد: أنت ظلمتني بعقابي هذا؛ لأن قولك: اسقني صيغة "افعل"، وهذه لا توجب ولا تجزم شيئا، لقال له أهل اللسان العربي: كذبت يا عبد بل الصيغة ألزمتك، ولكنك امتنعت فلسيدك أن يعاقبك. هذا وجه دلالة اللغة العربية على ما ذكرنا. وعلى كل حال فقوله: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } هذا الأمر واجب بإجماع العلماء؛ فيجب على كل مسلم أن يتبع ما أنزله الله في هذا القرآن الكريم على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم. |