............................................................................... ثم قال: { قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } . في هذا الحرف ثلاث قراءات سبعيات: قرأه ابن عامر وحده: "قليلا ما يتذكرون" بزيادة ياء، وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم { قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } ؛ بتاء واحدة مع تخفيف الذال على حذف إحدى التاءين. وإذا كان أول الفعل مبدوءا بتاءين جاز حذف إحداهما تخفيفا بقياس مطرد. وقرأه بقية القراء السبعة وهم نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر وهو شعبة عن عاصم قرأوا: "قليلا ما تذَّكرون" بتشديد الذال. فعلى قراءة { تَذَكَّرُونَ } أصله "تتذكرون" حذفت إحدى التاءين، وعلى قراءة "تذَّكرون" فقد أدغمت إحدى التاءين في الذال، وعلى قراءة ابن عامر "يتذكرون" فهو من الغيبة لا من الخطاب؛ فالفعل للغائبين لا للمخاطبين. وقوله: { قَلِيلًا } يعربونه مصدرا، والمعنى تتذكرون تذكرا قليلا؛ لأن الكفار ربما تذكروا تذكرا قليلا فآمنوا ولكنهم يراجعهم شركهم وكفرهم؛ كما قال: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } . وزعمت جماعة من علماء العربية أن العرب الذي نزل القرآن بلغتهم يطلقون القلة ويريدون بها العدم المحض. يقولون: مررت بأرض قليل بها الكراث والبصل؛ يعنون لا كراث فيها ولا بصل، وهذا أسلوب معروف منه قول غيلان ذي الرمة أنيخت فـألقـت بلـدة فـوق بلـدة قليل بهـا الأصـوات إلا بغامهــا يعني: لا صوت فيها ألبتة إلا بغام ناقته. ومنه قول الطرماح بن حكيم يمدح يزيد بن المهلب أشــم نــدي كثــير النــوادي قليـل المثــالــب والقـادحـــة يعني لا مثلبة فيه ولا قادحة ألبتة. وهذا معروف، ومنه في كلام العرب قوله: فما بـات لـو ردت علينـا تحيــة قليلا لـدي من يعـرف الحـق عابهـا يعني لا عيب فيها البتة عند من يعرف الحق. وظاهر القرآن هو الأول أنهم يتذكرون تذكرا قليلا لا يجدي، ولو تذكروا وآمنوا ببعض لا ينفعهم ذلك؛ كما قال تعالى: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } الآية. وهذا معنى قوله: { قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } والحاصل أن هذه الآية الكريمة يجب على كل مسلم أن يتدبرها، ويعلم أن النظام المتبع هو نظام الله لا نظام إبليس ولا قانون الشيطان؛ لأن قانون الشيطان صرح الله بأن من اتبعه مشرك في قوله: { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } . وآية الأنعام هذه { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } هي عند علماء العربية مثال لحذف لام التوطئة. قالوا: الأصل "ولئن أطعتموهم إنكم لمشركون"؛ فحذفت لام توطئة القسم، قالوا: وهذه الآية دليل على ذلك. والقرينة على أن هناك لام التوطئة محذوفة أنه لو كان شرطا محضا خاليا من قسم لقال: "وإن أطعتموهم فإنكم لمشركون"؛ لأن جواب الشرط إذا كان ليس يصلح فعلا للشرط وجب اقترانه بالفاء كما هو معروف في علم العربية. فلو لم يكن هنالك قسم مقدر لقال: "وإن أطعتموهم فإنكم لمشركون"، والتحقيق أن القرآن ليس فيه حذف الفاء في جملة جزاء الشرط إذا كانت جملة اسمية أو طلبية أو غير ذلك من الجمل التي لا تصلح أن تكون فعلا للشرط. وما زعموا من أن قراءة نافع في سورة الشورى "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ"، فإن المصحف الكبير الذي بقي في المدينة عند عثمان بن عفان رضي الله عنه فيه: "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ َبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ" بلا فاء. والمصاحف التي أرسلت للعراق وغيره فيها الفاء { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } قالوا: "ما" هنا شرطية والفاء لم تأت في قراءة نافع وابن عامر "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ َبِمَا كَسَبَتْ" بلا فاء. والحق أن آية الشورى هذه لا حجة فيها؛ لأن لفظة "ما" على قراءة نافع ابن عامر -أن "ما" موصولة لا شرطية، والمعنى والذي أصابكم من مصيبة هو كائن بما كسبت أيديكم، فلا شرط فيه أصلا على قراءة نافع وابن كثير والمقرر في علم القراءات وعلوم القرآن أن القراءتين كالآيتين تكون هذه القراءة لها معنى وهذه لها معنى، فلا مانع من أن تكون "ما" على قراءة الجمهور شرطية فجيء بالفاء، وعلى قراءة نافع وابن كثير موصولة فلم يحتج إلى الفاء. وهذا معنى قوله جل وعلا: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } . |