............................................................................... ومعنى الآية الكريمة { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } اختلف العلماء في تحقيق كلمة { النَّسِيءُ } ؛ هنا فقال بعضهم: هو من نسأ الثلاثية، وهو "فعيل" بمعنى "مفعول". العرب تقول: نسأه ينسؤه نسأ إذا أخر، والعرب تأتي بالفعيل مكان المفعول،كما يقولون: قتيل مكان مقتول، وجريح مكان مجروح، ونسيء مكان منسوء؛ أي مؤخر؛ فعلى هذا القول؛ فالنسيء "فعيل" بمعنى "مفعول"، كقتيل بمعنى مقتول، وجريح بمعنى مجروح، وعلى هذا فهو من نسأ الثلاثية . والقول الثاني أن { النَّسِيءُ } اسم مصدر أنسأ الرباعية، على وزن "أفعل"؛ لأن العرب تقول: أنسأ الأمر ينسئه إنساء ونسيئا؛ فالإنساء مصدر قياسي، والنسيء مصدر سماعي، كما جاء النذير مصدرا لأنذر، والنكير مصدرا لأنكر، والنسيء مصدرا لأنسأ بمعنى أخر. فعلى أن النسيء اسم مصدر بمعنى الإنساء فلا إشكال؛ لأن الإنساء فعل الفاعل، وعلى هذا فلا إشكال في قوله: { زِيَادَةٌ } ؛ أي لأن تأخير الشهر الحرام، وإنساءه من نقله من المحرم وتأخيره منه إلى صفر، هذا التأخير والإنساء { زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } ؛ لأنه أحل ما حرم الله وهو المحرم، وحرم ما أحله الله وهو صفر. أما على القول: بأن النسيء "فعيل" بمعنى "مفعول"، وأنه من نسأ الثلاثية، وأن النسيء بمعنى الزمان المنسوء، فيكون في قوله: { زِيَادَةٌ } إشكال؛ لأن نفس الشهر المنسوء المؤخر ليس هو عين الزيادة؛ ولذا لا بد في هذا المعنى من تقدير مضاف؛ أي إنما نسء النسيء زيادة في الكفر، أو إنما النسيء ذو زيادة؛ أي صاحب زيادة في الكفر حاصلة فيه . فاتضح من هذا أنه على أن النسيء اسم مصدر من أنسأ فلا تقدير في قوله: { زِيَادَةٌ } وعلى أنه "فعيل" بمعنى "مفعول" من نسأ الثلاثية، فلا بد من تقدير المضاف، إما قبل زيادة، أو قبل النسيء؛ فتقول: نسء المنسوء زيادة؛ أي تأخير الشهر زيادة في الكفر. أو تقول: المنسوء ذو زيادة؛أي صاحب زيادة في الكفر، لوقوعها بسببه. وهذا معنى قوله: { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } ؛ لأنهم كانوا كفارا، فلما أحلوا محرما وهم يعلمون أن الله حرمه، وحرموا صفرا وهم يعلمون أن الله ما حرمه -صاروا بهذا التشريع مرتكبين كفرا جديدا كما بينا، ازدادوا بهذا الكفر كفرا جديدا إلى كفرهم الأول. "يَضِل به الذين كفروا"، و { يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا } ؛ معناه يضلهم الشيطان، كما يأتي في قوله: { زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ } { يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا } قد أشرنا بالأمس أن هذه الآية الكريمة من سورة براءة، والحديث الذي جاء في مضمونها { إن الزمان قد استدار كهيئته } الحديث . خلط فيه خلق من كبار المفسرين ومن تكلموا على الحديث، وأن الصورة الحقيقية التي قالت بها جماعة من السلف، والقرآن يشهد لصحة قولهم، أنها التي كان يعملها الكنانيون؛ القلمس ومن بعده، وكان شاعرهم يفتخر بذلك، ويقول شاعرهم، وهو عمير بن القيس المعروف بجزل الطعان: لقد علمـت معــد أن قـومــي كرام النـاس إن لهــم كرامــا ألسنا الناسئــين علـى معـــد شهور الحـل نجعلهــا حرامــا وأي الناس لـم يــدرك بذكـــر وأي الناس لـم يعــرف لجامــا أنهم كانوا يأتون جنادة بن عوف إذا صدروا من منى فيقوم ويقول: أنا الذي لا أجاب ولا أعاب، ولا مرد لما أقول؛ هذا العام قد أخرت عنكم حرمة المحرم إلى صفر، فقاتلوا في المحرم، ثم حرموا مكانه صفرا. ويأتي في العام القادم ويقول مثل مقالته: أنا الذي لا أجاب ولا أعاب، ولا مرد لما أقول؛ قد حرمت هذا العام محرما، وأبحت صفر، كما هي العادة؛ فيحل لهم المحرم عاما، ويحرم مكانه صفرا، ويحرم المحرم عاما، فيترك الأشهر على حالها، وهذا موافق لقوله: { يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا } وموافق لقوله: { لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ } أما الصور الأخرى فلا تتفق مع الآية . أما الذين زعموا أنه يقول لهم في بعض السنين: حللت لكم المحرم وصفرا معا فهما صفران لا محرم في هذه السنة، وإنما فيها صفران فيحل لهم المحرم، ويترك صفر على حلاله الأصلي. وفي السنة القابلة يقول: هما محرمان، المحرم الذي كان حراما وصفر بدل المحرم الذي حرمه في السنة القابلة؛ فهذا وهو إن قال به جماعة كبيرة من العلماء؛ فهو لا يصح؛ لأنهم على هذا القول في إحدى السنتين ما حرموا إلا ثلاثة أشهر، والأشهر الحرم أربعة، وفي السنة الثانية حرموا خمسة أشهر، فلم يواطئوا ما حرم الله لا في السنة الأولى، ولا في السنة الثانية. وكذلك قول من قال: إنهم كانوا يسمون صفرا محرما، ويسمون ما بعد صفر صفرا، وكل شيء يسمونه باسم ما بعده، ويحجون في كل شهر عامين، وأن حجة أبي بكر عام تسع وافقت ذي القعدة، وأن أبا بكر حج بالناس عام ذي القعدة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حج بالناس حجة موافقة ذي الحجة، وأن هذا معنى استدارة الزمان كهيئته يوم خلق السماوات والأرض. فهذا لا شك في أنه فاسد باطل؛ لأن الله صرح في كتابه بقوله في حجة أبي بكر بالناس عام تسع: { وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ } وقد أذن ببراءة علي رضي الله عنه ومن معه يوم الحج الأكبر، ومعلوم أن الله لا ينزل في كتابه يوم الحج الأكبر، يريد أنه من ذي القعدة، فهذا من الباطل الذي لا شك فيه، فهذا كله لا يصح . فالتحقيق أن هذه الصورة التي نزل به القرآن التي كان يفعله لهم الكنانيون-أنهم سنة يحرمون صفر ويحلون المحرم مكانه، وفي سنة يبقون الأمر على حاله، فيحلون المحرم سنة ويحرمونه سنة، ويواطئون بذلك، يوافقون عدة ما حرم الله، وهي أربعة أشهر من السنة. وهذا معنى قوله: { يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا } العام السنة، والألف التي في مكان عينه منقلبة عن واو؛ فيكسر على أعوام؛ فعينه واو. |