واعلم أن العلماء في هذا المحل يعيبون القياس، ويذمون الرأي، ويقولون: إن من قاس فقد اتبع إبليس؛ لأنه أول ما رد النصوص بالقياس، وعن ابن سيرين -رحمه الله- ما وجدت .. إلا بالقياس، ويكثر في كلام السلف ذم الرأي والقياس. ومن أشنع من يحمل على المجتهدين في القياس الظاهرية وبالأخص أبو محمد ابن حزم -عفا الله عنا وعنه- فإنه حمل على أئمة الهدى -رحمهم الله- وشنع عليهم تشنيعا عظيما، وسخر منهم سخرية لا تليق به ولا بهم، وجزم بأن كل من اجتهد بشيء لم يكن منصوصا في كتاب الله أو سنة نبيه بأنه ضال، وأنه مشرع. وحمل على الأئمة، وسخر من قياساتهم، وجاء بقياسات كثيرة للأئمة، وسفهها، وسخر من أهلها، فتارة يسخر من أبي حنيفة -رحمه الله- وتارة من مالك وتارة من أحمد وتارة من الشافعي . لم يسلم منه أحد منهم في قياساتهم. ومن عرف الحق عرف الأئمة -رحمهم الله- أنهم أولى بالصواب من ابن حزم وأن ما شنع عليهم فهم أولى بالصواب منه، وأنه هو حمل عليهم وهم أولى بالخير منه، وأعلم بالدين منه، وأعمق فهما لنصوص الكتاب والسنة منه. وهذا باب كثير فابن حزم يقول: لا يجوز اجتهاد كائن ما كان، ولا يجوز أن يتكلم في حكم إلا تبعا لنص من كتاب أو سنة. أما من دعا بشيء لم يكن منصوصا في الكتاب ولا السنة فهو مشرع ضال، ويزعم أن ما ألحقه الأئمة من الأحكام المسكوت عنها، واستنبطوها من المنطوقات أن كل ذلك ضلال، ويستدل بعشرات الآيات إن لم تكن مئات الآيات فلا أقل من عشرات الآيات يقول الله قال: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } والمقاييس لم تنزل علينا من ربنا. ويقول: { قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي } فجعل الهدى بخصوص الوحي لا بخصوص المقاييس. ويقول: { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } والمقاييس لم تكن مما أنزل الله، ويقول: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } { فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } { فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } والقياس لم يكن مما أنزل الله. ويأتي بنحو الآيات من هذا بشيء كثير جدا، ويقول: إن القياس لا يفيد إلا الظن، والله يقول: { إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } . وفي الحديث: { إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث } ويقول: إن كل ما لم يأت في نص من كتاب أو سنة لا يجوز البحث عنه ذلك أن الله حرم أشياء، وأحل أشياء، وسكت عن أشياء لا نسيانا رحمة بكم فلا تسألوا عنها ، وفي حديث: { ما سكت الله عنه فهو عفو } . ويقول: إن ما لم يأت في كتاب ولا سنة فالبحث عنه حرام، وهو معفو لا مؤاخذة فيه... كما قال: فنحن مثلا وجب علينا صوم شهر واحد من السنة وهو رمضان، وسكت الوحي عن إيجاب شهر آخر فلم يجب علينا إلا هذا؛ لأن ما سكت عنه فهو عفو. ووجبت علينا الصلوات، وغيرها لم يكن علينا، وإن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث ضمام بن ثعلبة قال: لا، لما طالبه الأعرابي ضمام هل علي غيرها؟ { قال: لا إلا أن تطوع } أما إنها توجد أشياء لا يمكن أن تكون عفوا، ولا بد من النظر فيها والاجتهاد. |