فقال لصاحبه { أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا } هكذا افتخر على صاحبه الفقير؛ افتخر بما أعطاه الله، بقوله { أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا } أي: أملك ما أملكه من هذه البساتين، وأملك ثمارها، وأملك أنهارها، وأملك أيضا نتاجها وغلتها؛ فأنا أكثر منك مالا، وهكذا أيضا افتخر بأنه أعز نفرا. يعني: أسرة وقبيلة. يعني: أن قبيلته وفخذه الذي ينتمي إليه أهل عزة وأهل قوة وأهل منعة، عندهم من الذخائر وعندهم من القوة ما ينتصرون به على غيرهم. يفتخر بقومه، ويفتخر بماله. وهذا الافتخار يحبط الأعمال؛ وذلك لأنه لم يسند الأمر إلى الله، ولم يعترف بفضل ربه، ولم يشكر الله تعالى على ما أعطاه وخوله، ولم يقل: هذا من فضل ربي، كما حكى الله تعالى عن سليمان لما تمت عليه النعمة اعترف بأنها من الله، فقال { هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } . فهكذا يكون العارفون بالله؛ يعترفون بأن ما أعطاهم الله فإنه ليس دليلا على كرامتهم، وإنما هو للابتلاء والامتحان؛ هل يشكرون أم يكفرون، هل يعترفون بفضل الله عليهم، ويستعينون بما أعطاهم الله من زهرة الدنيا وزينتها، يستعينون به على شكر الله، وعلى ذكره، وعلى حسن عبادته، وعلى أداء حقوقه التي أعطاهم، والتي خولهم؛ أم يصرفونها فيما يسخط ربهم، يصرفونها فيما هو كفر وضلال؛ يبعدهم عن الله تعالى. فالذين إذا أعطاهم الله، ووسع عليهم من الدنيا، ومن زينتها، وزهرتها اعترفوا بأن الفضل فضل الله، وأن النعمة منه، وأن ما أعطاهم ليس دليلا على كرامتهم، وإنما هو لابتلائهم واختبارهم؛ فهؤلاء هم السعداء. وأما الذين إذا أعطاهم الله من زهرة الدنيا وزينتها، افتخروا على غيرهم، واستعانوا بما أعطاهم ربهم على المعاصي، وعلى المخالفات، وكفروا نعمة الله، وأشروا وبطروا، وتحكموا فيما أعطاهم ربهم، واستعانوا به على معاصيه؛ هؤلاء من الذين كفروا نعمة الله، قال الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } بدلوا نعمة الله. أي: بدلوا شكرها. بدل ما يعترفون بفضل الله عليهم، وبدل ما يشكرون الله على ما أعطاهم، افتخروا بأن هذا دليل كرامتهم، وبأنه دليل شرفهم، وبأنهم أهل الثروة وأهل القوة وأهل العزة وأهل المنعة؛ فنسوا أن هذا ابتلاء وامتحان. ورد في حديث: { إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب } . صحيح أن الكثير من الناس يعطيهم الله تعالى الدنيا، ومع ذلك يصرفونها في معاصي الله، ويستعينون بها على مساخطه؛ أشرا وبطرا، وتكبرا وإعجابا بأنفسهم، وكفرا لنعمة ربهم، وقد حكى الله تعالى عن مشركي العرب أنهم لما دعوا إلى الإسلام، ورأوا أن المؤمنين فقراء وأذلة، افتخروا { وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } . هكذا افتخروا بكثرة أموالهم وبكثرة أولادهم، وبعزتهم وقوتهم، وبنشاطهم في أمور دنياهم، وظنوا أن هذا يقربهم، وأنه ينفعهم؛ فرد الله عليهم وقال: { وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } . فأخبر بأن أموالكم لا تنفعكم، ولا تفيدكم عند الله، ولا تقربكم إلى السعادة، ولا تقربكم إلى رضا الله تعالى، ولا تنفع الأموال والأولاد إلا من استعان بها على طاعة ربه؛ استعان بها على ما يقربه إلى الله؛ وإلا فمتاع الدنيا ليس يفيد مالكه. متاع غرور لا يدوم سروره، وأضغاث حلم خادع بهبائه. يعني: أن الله تعالى مثل هذه الدنيا ومتاعها: بالهباء المنثور، في قوله تعالى: { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ } ثم ضرب لها مثلا بقوله: { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } . فهكذا مثل الحياة الدنيا بأنها متاع الغرور، وأخبر بأنها زينة ومتاع عاجل، { أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ } وهذا ما قص الله علينا في هذه القصة أن هذا الرجل افتخر بما أعطاه الله. وقد حكى الله تعالى عن قارون الذي هو أحد أفراد بني إسرائيل وأقارب موسى عليه السلام، أنه أعطاه الله تعالى أموالا طائلة، قال تعالى: { وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ } يعني: مفاتيح خزائنه يعجز عن حملها جماعة من الناس. المفاتيح التي تفتح بها تلك الخزائن يعجز عن حملها عصبة من الرجال الأقوياء. ومع ذلك افتخر لما نصحه قومه، وقالوا له: { لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } أي: لا تفرح فرح أشر وفرح بطر، بل اعترف بفضل الله، ولا تفرح { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } وقالوا له: { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ } أي: ما أعطاك الله قدمه لآخرتك، حتى ينفعك عند الله تعالى؛ اصرفه فيما يعينك على رضا الله تعالى: { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } أي: تمتع من الدنيا بما أباح الله تعالى لك. فماذا كان جوابه؟ جوابا دليلا على الجهل، بقوله: { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } أي: ما أعطيت هذا المال إلا لأجل حظي، فاعتقد أنه ذو حظ، وأنه ذو تجربة وعلم وفكرة، وغبطه أيضا الذين يريدون الحياة الدنيا، وقالوا: { يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } اعتقدوا أن ما أعطيه من هذه الزينة وهذه الأموال دليل على كرامته؛ ولكن الله تعالى عاقبه لما افتخر بما أعطاه الله. يقول تعالى: { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ } فهكذا في هذه القصة، افتخر هذا الرجل وقال: { أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا } هذا ما حكاه الله عنه. |