جزاء السخرية بالمؤمنين

وفي آية أخرى قال تعالى في سورة (ص) لما ذكر أهل النار وما كانوا فيه، قال الله تعالى: { وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ } يعنون المؤمنين لا نراهم معنا في النار، { مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا } يعني: كنا في الدنيا نسخر منهم ونتنقصهم { أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ } يعني: أم ما رأيناهم احتقارا لهم وتصغيرا لشأنهم وهم في النار { أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ } . فهؤلاء أخبروا بأنهم كانوا اتخذوا أهل الإيمان سخريا، ومع ذلك ما رأوهم في النار، كأنهم يقولون: إننا نحتقرهم في الدنيا فلماذا ما رأيناهم معنا في العذاب؟ الجواب: أن الله تعالى أكرمهم ورفعهم، وأجزل لهم ثوابهم، وأنتم أيها الساخرون لما اتخذتموهم سخريا كان جزاؤكم أنكم في هذا العذاب الذي ذكر الله تعالى عظمه. فلا شك أن هذا أيضا جزاء من سخر بالمؤمنين ، فإن السخرية بهم سخرية بالله الذي اختار لهم هذا الدين، فلا بد أنهم يعذبون ويوبخون على سخريتهم بالله تعالى وبدينه وبعبادته. كذلك أيضا ذكر الله تعالى عقوبة أهل النار في قوله تعالى في خطابه مع أهل النار الذين يقولون وهم في النار: { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } أي شقاؤنا وكوننا أشقياء؛ فيطلبون من الله أن يخرجهم، يقولون: { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } أي: ما حكم علينا بأننا من أهل الشقاء في الدنيا، ثم يطلبون الإخراج: { أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } ذكروا أنهم يقولون أيضا ذلك لمالك خازن النار : { أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } فيجيبهم بعد مدة طويلة فيقول: { اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا } سخرتم منهم لأجل دعائهم لله، ولأجل تمسكهم بشرع الله، اتخذتموهم سخريا { وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ } . فهذا حوار مع أهل النار وهم في النار، يعترفون ويقولون: { غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ } ثم يقولون: { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا } من هذا العذاب الذي نناله في النار، فإن عدنا إلى ذلك الكفر فإننا نعترف بالظلم، فالله تعالى يجيبهم بقوله: { اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ } اخسئوا يعني ذلك إهانة لهم، بمعنى ذلوا وهونوا، كلمة اخسأ يخاطب بها من يريد إهانته وإذلاله وتحقير شأنه، والإضرار به وعدم الالتفات إليه، وعدم الاهتمام به لحقارته ولسوء حالته، ولا تكلمون لا تدعوا بقولكم: { أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } لأن من أعمالكم استهزاؤكم بالمؤمنين في الدنيا، { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي } يعني: وهم أهل الإيمان وأهل الصلاح يدعون ربهم: { يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } ينيبون إلى الله، ويدعونه وحده، ويطلبون منه المغفرة، ويطلبون منه الرحمة، ويتوسلون بأنهم مؤمنون، ويعترفون بأن ربهم أرحم الراحمين، فلما كانوا كذلك سخرتم منهم، اتخذتموهم سخريا، تتنقصونهم وتعيبونهم، وترمونهم بكل وصمة وبكل عيب، وتضحكون منهم، تضحكون على أعمالهم، { إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ } يعني في الدار الآخرة بالفوز بالجنات، { أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ } وأنتم الخاسرون، فهذا جزاء من سخر بدين الله. وكذلك قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُون وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِين وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ } هذا أيضا مما ذكره الله تعالى، المجرمون هم الكافرون الذين أجرموا، من جرمهم ضحكهم بالمؤمنين { كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ } سخرية وتنقصا، يستهزئون بهم ويتهكمون بحالتهم، { مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُون } يعني: على وجه السخرية، يشيرون إليهم: هؤلاء الضعفاء، هؤلاء المساكين، هؤلاء المخدوعين المغرورين الذين أضاعوا حياتهم، والذين أضاعوا نصيبهم، والذين صدقوا بما لا يصدقه العاقل. وهكذا { وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُون وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِين } وكأنهم يتفكهون بأعراض المؤمنين، أو يتفكهون بما أعطاهم الله، ويتمدحون بما هم فيه من السعة في الرزق، ومن التوسعة في المال، ونحو ذلك، { وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِين وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ } أي: تائهون خاسرون، إن هؤلاء الذين صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم، هم الذين أضاعوا حياتهم، وفاتهم الخير، وفاتتهم الكرامات، وفاتهم التنعم والتلذذ في هذه الحياة الدنيا، هذه حالتهم. يقول الله: { فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ } ينظرون إليهم وهم في النار فيضحكون منهم، ويقولون: هذه عاقبتكم لما كنتم في الدنيا تضحكون منا، فاليوم نحن نضحك منكم، يطلعون عليهم فيرونهم في العذاب -والعياذ بالله-. كما في قول الله تعالى: { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ } يعني: يسخر منه ويقول: أتصدق بأننا بعد موتنا سنبعث ونجازى بالأعمال؟! { قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ } يعني ناظرون إلى النار { فَاطَّلَعَ فَرَآهُ } رأى صديقه الذي كان يسخر منه { فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ } فحمد الله تعالى على ذلك لما رآه في سواء الجحيم، وأخبر بأنه كان حاول أن يضله، فالحاصل أن هذه أدلة واضحة على أن من عادة الكفار أنهم يسخرون بالمؤمنين، وأنهم يتنقصون حالتهم، وأن الله تعالى كفرهم بذلك.