من المسائل التي وقع الخلاف فيها: الْفِطْرُ في السفر، هل يُفْطِرُ في السفر دائما -في كل سفر- أم لا؟ ورد في ذلك أحاديث كثيرة منها: { أنه صلى الله عليه وسلم صام مرة في سفر في حَرٍّ شديد } ومنها: أنه قال: { ليس من البر الصيام في السفر } في حديث: أنهم كانوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في حَرٍّ شديد، وأحدهم يضع يده على رأسه من شِدَّةِ الحر، وليس فيهم صائم إلا النبي -صلى الله عليه وسلم- وابن رَوَاحَةَ تَكَبَّدَ وصبر في هذا الحر الشديد، فَدَلَّ على أنه يجوز الصوم مع شدة الحر في السفر. وذهب جمهور العلماء إلى أن الأفضل الصيام، وأن الْفِطْرَ جائز. الأفضل أن يصوم في السفر في رمضان، وإن أفطر؛ فإنه جائز ، وذهب آخرون إلى أن الْفِطْرَ أفضل، والصيام جائزٌ. قولان متناقضان! هؤلاء يقولون: الأفضل أن تصوم دائما، يعني: وإن أفطرتَ لا بأس. وهؤلاء يقولون: الأفضل أن تُفْطِرَ، وإن صُمْتَ فلا بأس. وأنا أختار أَنَّك مع المشقة يُفَضَّلُ لك الإفطار، ومع عدم المشقة يُفَضَّلُ لك الصيام، هذا هو القول الوسط. والدليل: { أنه صلى الله عليه وسلم صام في سفره في غزوة الفتح ثمانية أيام من مكة حتى بلغ كراع الغميم أو قريبا من عُسْفَان ثمانية أيام وهو يصوم، والمسلمون معه عشرة آلاف كلهم صيام؛ عشرة آلاف، فلما بلغوا ذلك المكان، قالوا: يا رسول الله إن الناس قد شق عليهم الصيام؛ فعند ذلك أَفْطَرَ، أفطر وقال: أفطروا، فإنكم أقبلتم على عدوكم، والفطر أقوى لكم } أمرهم بالإفطار؛ حتى يتقووا على القتال؛ لأنهم قد أقبلوا على عدوهم، والفطر أقوى لهم، ولما استمر أناس في الصيام وصفهم بأنهم عصاة. فعلى هذا في هذه الأزمنة المشقة يسيرة؛ الغالب أن السفر ليس فيه مشقة؛ لأن الأسفار الآن تُقْطَعُ بواسطة الناقلات السيارات والطائرات ونحوها، وليس فيها مشقة؛ فإنها غالبا مُظَلَّلَةٌ، وفيها مُكَيِّفَات –مثلا- باردة أو حارَّةٌ؛ تُزِيلُ ما يُحِسُّ به من الْحَرِّ أو البرد، وأيضا تَقْطَعُ المسافة الطويلة في زَمَنٍ يَسِيرٍ، وأيضا ليس هناك صعوبة عند النزول؛ عندما ينزلون لا يحتاجون إلى إيقاد نار لإصلاح الطعام، ولا إلى سَقْيِ الركائب والرواحل، ولا إلى ضَرْبِ الْخِيَامِ وبناء الأبنية، ولا إلى الاستظلال بالأشجار وبالكهوف في الجبال وما أشبهها؛ بل كل شيء مُيَسَّرٌ ومُسَهَّلٌ؛ فأختار أن الإنسان يصوم في هذه الأسفار، وإن وُجِدَ أن عليه مشقة؛ فلا بأس أن يُفْطِرَ عند المشقة، وإن تَرَخَّصَ وأفطر ولو مع عدم المشقة فله سَلَفٌ قد ذهبوا إلى ذلك، ولكل مجتهد نصيب. ثم اختلفوا أيضا في مقدار السفر الذي تُقْصَرُ فيه الصلاة وتُجْمَعُ، والذي يحصل فيه الإفطار؛ فمنهم من حَدَّدَهُ بالمسافة، وقالوا: إنه -مثلا- خمسة وثمانون كيلو، أو أنه تسعون كيلو، أو نحو ذلك. ومنهم من حَدَّدَهُ بالزمان، وهذا هو المختار؛ أنه يُحَدَّدُ بالزمان؛ أي: بالمدة التي يقطعها، فإذا كانت المسافة تقطعها في ساعتين، أو في ثلاث ساعات، أو في نصف يوم، فالمختار أنه ليس يُسَمَّى سفرا، وأن الإنسان الذي يقطع مسافة ثلاثمائة كيلو، أو خمسمائة كيلو ثم يرجع إلى أهله في يومه، أو في ليلته لا يُسَمَّى مسافرا، ولا يترخص. هذا هو الذي نختاره؛ وذلك لوجود المواصلات التي تُقَرِّبُ ما كان بعيدا، فلا نعتبر السفر إلا المدة الطويلة التي تزيد عن أربع وعشرين ساعة في غيبته؛ حتى ولو كانت المسافة قليلة؛ حتى ولو سافر –مثلا- للاقتناص، أو سافر للاحتشاش أو الاحتطاب، أو لرعي الدواب –مثلا- أو نحو ذلك، وقضى يومين أو ثلاثة أيام اعتبرناه مسافرا؛ حتى ولو سافر للنزهة، ولو –مثلا- مسافة عشرين أو ثلاثين كيلو اعتبرناه مسافرا؛ له أن يَقْصُرَ، وله أن يجمع إذا جَدَّ عليه السير. ذكرنا هذه الأمثلة؛ حتى يعلم الإنسان ما هو المناسب في مثل هذا الزمان، وإن كانت الأمثلة كثيرة؛ ولكن الإنسان إذا استفتى عالما من العلماء، ثم استفتى آخر، واختلف عليه عالمان؛ ماذا يفعل؟ نقول له: لك أن تأخذ بقول أوثقهما في نفسك؛ أوثقهما وأثبتهما لك أن تأخذ بقوله؛ وذلك لأن كثيرا -حتى من مشائخنا- يقع بينهم بعض من الاختلافات، فمشائخنا القدامى: كشيخنا محمد بن إبراهيم رحمه الله، وشيخنا عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله لهم اجتهاد ولهم نظر. ومشائخنا المتأخرون –أيضا- لهم اجتهاد ولهم نظر. فإذا نظرنا إلى الدليل أخذنا به، واحتطنا في المسائل الخلافية. |