فأولا: بعد أن نقول كما قالت الملائكة: { سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا } نقول: إن العلم الذي خلقنا لأجله، والتفقه في الدين الذي أوجدنا لأجله واجب علينا؛ حتى لا نكون من الذين يعبدون الله على جهل وضلال. ودليل ذلك أن الله أمرنا أن نسأله أن يجنبنا طريق المغضوب عليهم، وطريق الضالين، المغضوب عليهم هم اليهود، معهم علم ولم يعملوا به، والضالون هم النصارى، يعبدون الله على جهل وضلال، فلذلك قال بعض العلماء: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى. فنحن بحاجة إلى معرفة ما يهمنا في هذه الحياة؛ حتى لا نكون شبيهين بهؤلاء، وقد بيّن أو جاءت الأدلة في فضل من تفقه وتعلم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - { من يرد الله به خيرا يفقه في الدين } والخير هنا يعني: الصلاح، والاستقامة، والسعادة الدنيوية والأخروية؛ فالذي يشتغل بالتفقه والتعلم هو ممن أرد الله له سعادة؛ وذلك لأنه يتحمل هذا العلم الذي هو ملزم بالعمل به، والذي يبث في الأمة حتى ينير لهم الطريق. وقد ذكر العلماء أن العلم منه ما هو فرض عين، ومنه ما هو فرض كفاية، فعلمك أو تعلمك للعبادات اللازمة لك هذا فرض عين، فريضة على كل مسلم أن يتعلم كيفية صلاته، وكيفية طهارته، وصيامه، وما أشبه ذلك مما هو محتاج إليه، ويتعلم ما يحرم عليه من المحرمات، التي نص الله على تحريمها. وأما تفاصيل الأشياء كشروط العبادات وواجباتها، ومكملاتها وسننها، فإن معرفة ذلك من فروض الكفايات، التي يلزم أن يكون في الأمة من يعرفها، ويأثمون إذا تركوا معرفتها جميعا؛ لأن الحاجة إليها داعية، فلا بد أن يكون هناك طائفة يعرفون هذه التفاصيل، ويعلّمون من يجهلها، أو من يحتاج إلى التبصر فيها. ولا شك أن الذين يقفون أنفسهم على تعلم هذه المعلومات أنهم ينفعون أنفسهم، وينفعون الأمة، ويبقى لهم خير كثير بعد موتهم؛ حيث يبقى ذكرهم، والدعاء لهم؛ لأن الناس استمعوا بعلمهم، وتفقهوا من فقههم، لأجل ذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- { إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له } والعلم الذي ينتفع به يعم ما كان مكتوبا ومصنفا في رسائل وكتب ونحوها، وما كان محفوظا في صدور أهل العلم الذين حفظوا عن ذلك العالم، وتناقلوا علمه، وانتفعوا به، فيصل إليه أجر بسبب انتفاعهم له، وكذلك دعائهم له على ما حصل لهم منه من النفع العام والخاص. ولما كان العالم الذي يحمل هذا العلم لما كان بهذه المنزلة جاء فضله في عدة مواضع، ومن ذلك أن حملة العلم شهداء الله تعالى، الذين أشهدهم على وحدانيته، وقرنهم بنفسه وبملائكته، اقرءوا قول الله تعالى: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ } فأشهد نفسه على أنه الواحد لا إله إلا هو، وأشهد معه ملائكته، وأشهد أولي العلم خاصة، ولم يستشهد بأولي الجهل، ولا أولي التجاهل. ولا شك أن هذا شرف لك أيها العالم، شرف لأولي العلم؛ حيث قرن الله شهادتهم بشهادته، وبشهادة ملائكته، وما ذاك إلا أنهم هم الذين عرفوا حق الله، عرفوا حق الله على عباده، فلما عرفوا حقه على عباده، وعرفوا أيضا وحدانيته، وعرفوا الأدلة الدالة على ذلك، وعرفوا ما خلق الناس لأجله، فنطقوا بهذه الشهادة، وأعلنوا العمل بها، ودعوا الناس إليها، فلا جرم أصبحوا من شهداء الله تعالى على وحدانيته، وكفى بذلك شرفا وفخرا. ومن الأدلة على فضل أهل العلم أنهم أهل خشية الله الذين يخشونه، ولا يخشاه غيرهم، اقرءوا قول الله تعالى: { يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } المعنى: أن الخشية خاصة ومحصورة في أهل العلم دون غيرهم، أما أهل الجهل فإنهم لا تكون معهم الخشية المطلوبة المنجية من عذاب الله. ذلك لأن العالم يحمله علمه على مخافة الله، وعلى تقواه، وعلى التورع عما حرم، وعلى الإقدام على العبادة، وعلى التجاوب والتقبل لما جاءه عن ربه، فتحمله هذه المعرفة على شدة الخوف دون غيره، هذا سبب كون أهل العلم هم أهل خشية الله دون غيرهم. ولا شك أن الخشية خشية الله هي من أجل عباداته، الخشية عبادة من أنواع العبادات، بل هي من أجلّ العبادات، وقد ذكر الله أنها سبب لثوابه.. للثواب العظيم، والأجر الكبير، ألا وهو: دخول الجنة، والنجاة من النار، فقال تعالى في آخر سورة البينة: { جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } . أي: هذا الثواب الجزيل كله لمن خشي ربه، أي: لأهل الخشية، ومن هم أهل الخشية؟ { يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } فأهل هذا الجزاء هم العلماء الذين يحملهم علمهم على مخافة الله تعالى وخشيته، وكفى بذلك ثوابا جزيلا. كذلك قد نفي الله التسوية بينهم وبين غيرهم، في قوله تعالى: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } وحذف الجواب لظهوره، المعنى: لا يستوون، بل أهل العلم أقدم وأفضل وأرفع درجة، وأكثر عملا، وأصوب عملا؛ حيث أنهم يعملون على بصيرة ونور وبرهان. وأما الذين يعملون على جهالة فإن أكثر أعمالهم مردودة، سيما إذا ظنوا أنهم على علم وهم على جهل، وهو الجهل المركب. وقد ذكر العلماء أن المعرض عن التعلم الواجب قد يوصف بالجهل المركب، وقد يوصف بالجهل غير المركب، وهو: الجهل البسيط، فروي عن بعض العلماء، أنهم قالوا: إن الناس أربعة أقسام: عالم ويدري أنه عالم فهذا كامل فسودوه، وعالم ولا يدري أنه عالم فهذا غافل فنبهوه، وجاهل ويدري أنه جاهل فهذا مسترشد فأرشدوه، وجاهل ولا يدري أنه جاهل فهذا مائق فاتركوه. فالجاهل الذي لا يدري أنه جاهل هو شر أنواع الجهل، وهو الذي ذكره بعضهم بقوله: ومن أعجب الأشيـاء أنك لا تدري وأنـك لا تـدري بـأنك لا تدري يعني: أنك جاهل، ومع ذلك تعتقد أنك عالم، فالذي لا يتعلم حتى يحصل على علم نافع هذا يُنبه إلى العمل بعلمه، وإلى تعليمه وبثه وعدم كتمانه، والذي يتعلم علما غير نافع ثم يسترشد إلى العلم يجب أن يرشد إلى ما ينفعه. فهكذا ينبغي لنا أن نكون منتبهين إلى معرفة ما ينفعنا من العلم النافع. ولا شك أيضا أن العالم بالله تعالى وبأسمائه وبآيته، أنه هو الذي يحصل على الفضل -الفضل الكبير- وذلك أنه ورث نبوة الأنبياء، أي: ما جاءوا به؛ كما ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم– قال: { العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر } العلم الذي جاءوا به هو علم الشرائع، وعلم الديانات، وعلم العبادات، ونحوها، هذا هو الميراث النافع. ليس الميراث النافع هو حطام الدنيا، إنما العلم النافع، والميراث النافع هو المساهمة في ما جاء في ميراث أنبياء الله تعالى ورسله، سماه ميراثا؛ لأنهم خلفوه بعدهم، وقام ورثتهم الذين هم حملة العلم مقامهم فاكتسبوا أجرا عظيما. فمن الأجر الذي اكتسبوه ما ورد في فضلهم في ما يبذلونه في طلب العلم، ففي هذا الحديث حديث أبي الدرداء أن النبي -صلى الله عليه وسلم– قال: { من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر، ولعالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد } . وذلك لأن العابد أو العباد -ولو كثروا- يقدر الشيطان على أن يشككهم وأن يضلهم ويغويهم، وأما العالم بالله وبأسمائه وبآياته فإن الشيطان لا يتمكن من إغوائه، ولا من إيقاعه في المتاهات والضلالات؛ لكونه على نور وبصيرة، وعلى معرفة بما يدحض به الشبه التي يوسوس بها الشيطان في صدور كثير من الناس. وإذا عرفنا أن العلماء هم ورثة الأنبياء؛ فإنه ينبغي لهم أن يعزوا أنفسهم، وأن لا يجلسوا مجالس الذل، ولا يزاحموا غيرهم فيما هو نقص عليهم، وضلال وحط من معنويتهم، فقد أخبر الله تعالى بأنه يرفعهم؛ رفعا حسيا ورفعا معنويا، يقول الله تعالى: { إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } . لم يقيد أهل العلم، وقيد المؤمنين بقوله: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ } وقال: { وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } أي: منكم ومن غيركم، يرفعهم درجات، وهذا الرفع قد يكون في الدنيا، وذلك بما يكتسبونه من الشرف ومن الفضل؛ حيث إن العالم يكون له منزلة في قلوب الناس، ويكون له قدر وحرمة فيما بينهم، وتقبل لما يلقيه ودعاء له ورفع لمعنويته، وإن كان مأمورا؛ بأن يكون متواضعا لله، ومتواضعا لعباد الله، وغير معتز بنفسه، ولا مفتخر بما حصل عليه؛ حتى يكون ذلك أدعى إلى تقبل ما يقوله. وأما الرفع في الآخرة فإنه رفع حسي، وهو أن الله تعالى يرفعه درجات في درجات الجنة؛ بحيث إن أهل العلم العاملين به يراهم غيرهم كالنجم الغابر في الأفق، يعني: يرى بعضهم أو يرى بعضهم مثل ما يرى في الدنيا الكوكب الغابر في الأفق؛ لتفاوت ما بينهم، فهذا معنى قوله: { وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } يعني: ويرفع أهل العلم درجات، فكفى بذلك شرفا في حثك على أن تكون من أهل العلم. |