ننتقل إلى العبادات القولية التي هي قول باللسان، ونذكر بعض أمثلتها. فمعلوم أن ربنا –سبحانه- فضل الإنسان على الحيوان بأن أنطقه، { عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } البيان الذي هو القدرة على الكلام. وأن هذا اللسان حركته سهلة، حركته خفيفة، ليس مثل حركة اليد، والرجل، والرأس، ولما كان كذلك كان يترتب عليه ثواب وعقاب. فمن الكلام ما هو عبادة، ومنه ما هو معصية وذنب. وتسمعون الأحاديث في ذلك كثيرة،كقوله -صلى الله عليه وسلم- { إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا يهوي بها في النار، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يظن أن تبلغ ما بلغتْ يكتب الله تعالى له بها رضوانه يوم يلقاه } . فمن عبادات اللسان: الدعاء، والذكر، وقراءة القرآن، ونصيحة المسلمين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله تعالى، وما أشبه ذلك. فهذه عبادات باللسان، وفيها أجر وثواب، كما أن السب والشتم ونحوه معاصٍ باللسان، وكذلك الغيبة والنميمة معاصٍ باللسان، وكذلك الدعوة إلى الكفر وإلى المعاصي وما أشبهها معصية باللسان. فنبدأها، نقول: الدعاء الذي هو سؤال الله تعالى عبادةٌ باللسان، أَمَر الله تعالى بها، قال تعالى: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } { ادْعُوا رَبَّكُمْ } يعني: اسألوه. فهذا الدعاء يُحِبُّه الله تعالى، وهو من أفضل القربات، ومن أفضل العبادات، علينا أن نُكْثِرَ من الدعاء؛ حتى يكون سببا في رحمة الله لنا؛ وحتى يقبله ويثيبنا عليه إما عاجلا وإما آجلا. فنتناصح على الإكثار من دعاء ربنا وسؤاله؛ فإنه يحب الْمُلِحِّين في الدعاء، وكذلك يعطيهم ويثيبهم ويأجرهم ويجيبهم، كما قال الله تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } وفي الحديث: { مَنْ لم يَسْأَلِ الله يغضبْ عليه } أي: أن من سأل الله رضي عنه، ومن لم يسأله غضب عليه؛ ذلك لأن العباد فقراء إلى ربهم، لا يستغنون عن ربهم طرفة عين، فإذا كانوا يُعْرَفُون بحاجتهم الشديدة إلى الله؛ فإنه يحب منهم أن يطلبوه، يحب منهم أن يسألوه، وأن يكثروا من سؤاله، وأن يتضرعوا إليه، وأن يعبدوه حق عبادته، وأن يسألوه حاجاتهم. كان بعض العلماء يوصي فيقول: سَلْ ربك كل شيء؛ حتى ملح طعامك. أي: اسأله واطلب منه كل ما تحتاجه؛ حتى لو نقصك ملح الطعام فسألت الله يَسَّرَهُ لك. فهذا السؤال، هذا الدعاء كلام تتكلم به، تسأل الله فتقول: يا رَبِّ، هَبْ لي حكما وألحقني بالصالحين، يا رب، اغفر لي ذنبي، وَقِني شُحَّ نفسي. يا رب، أصلح نيتي، وأصلح ذريتي، وأصلح عملي. يا رب، اختم لي عمري بخاتمة حسنة. يا رب، أنجني من عذابك، واجعلني من أهل ثوابك. يا رب، أنقذني من النار، وأدخلني الجنة. فاسْأَلِ الله أن يعطيك ما يكون سببا في سعادتك، فإذا سألت الله وأنت صادق فإنه يعطيك سُؤْلَكَ، فَوَرَد الترغيب في هذا الدعاء، كما في قول الله تعالى: { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } . فعلينا أن نُكْثِرَ من هذا؛ لأن الله يحبه، وَيُرَغِّبُ عباده فيه؛ وذلك لأن العباد بحاجة إلى ما عند الله، وهو سبحانه غني عنهم؛ ولكن إذا سألوه أعطاهم؛ سيما إذا كانوا صادقين في سؤاله وفي دعائه. فهذا علينا أن نشتغل به كثيرا، بعد كل صلاة موسم من مواسم الدعاء. وكذلك في جوف الليل، سُئِلَ النبي -صلى الله عليه وسلم- أي الدعاء أسمع؟، يعني: أكثر وأولى أن يستجاب، فقال: { جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبة } أي: آخر الليل. آخر الليل إذا يَسَّرَ الله وقمت وصليت ما تيسر، ودعوت الله وأنت صادق كان ذلك أقرب إلى أن تستجاب دعوتك. وكذلك عقب الصلوات؛ إذا صلى المسلم صلاة مكتوبة من الفرائض الخمس، ثم جاء بالأذكار، جاء بالأذكار والأوراد والتسبيح والتكبير والتحميد والتهليل والقراءة التي شرعتْ، ثم بعد ذلك دعا ربه؛ فإن هذا حَرِيٌّ أن يُقْبَلَ، حَرِيٌّ أن تجاب دعوته. وكذلك إذا دعا الله تعالى في الأماكن الشريفة، في المساجد، وفي الحرمين، وفي الأماكن المفضلة وما أشبهها. فالدعاء عبادة قولية في فعلها وفي المواظبة عليها أجر كبير. |