وأما من عبر الصراط فإنهم بعدما يعبرون الصراط يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص من بعضهم لبعض مظالم كانت بينهم في الدنيا؛ المظالم الدنيوية أن هذا مثلا عنده مظلمة لآخر، وأن هذا عنده حق لآخر فلا يدخلون الجنة إلا بعدما تكون قلوبهم نظيفة؛ ولذلك قال الله تعالى: { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة. أما الذين يدخلون النار فإنهم يعذبون فيها، ورد في القرآن صفة عذاب النار، وعدة أسماء لها، ذكر الله تعالى أن: { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ } ؛ أي أنها سبع طبقات، وأخذها بعضهم من القرآن: لظى، والحطمة، وجهنم، والجحيم، وسقر، والسعير، والهاوية؛ أي سبعة أسماء مذكورة في القرآن؛ أسماء للنار، وقيل: إنها أسماء طبقات النار –والعياذ بالله- ذكر الله تعالى أنها بعضها أسفل من بعض فقال تعالى: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ } . ورد في بعض الأحاديث أن المنافقين في طبقة، واليهود في طبقة، والنصارى في طبقة، والمجوس في طبقة، والمشركون في طبقة، والدهريون في طبقة، والمبتدعة والعصاة في طبقة؛ أي في درك من دركات النار . فالله سبحانه وتعالى قد أخبر عن هذه النار؛ أخبر بأن حرها شديد، وقعرها بعيد، وطعام أهلها الزقوم، وشرابهم المهل والصديد، ولباسهم القطران والحديد، وعذابهم أبدا في مزيد، وأخبر بأنهم ينادون مالكا خازن النار يقولون: { يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } ؛ أي ليميتنا. يا مالك قد أثقلنا الحديد، يا مالك قد تفللت منا القدود، يا مالك قد تمزقت منا الجلود، يا مالك العدم خير من هذا الوجود، يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود؛ فيجيبهم بعد زمان طويل: اخسئوا فيها فلا بد من الخلود. أخبر الله تعالى بشدة عذاب النار قال الله تعالى: { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } قد يقال: كيف تسلب حواسهم وهم كانوا في الدنيا يبصرون ويسمعون ويتكلمون؟! فيقال: إنهم هكذا يحشرون على وجوههم، استشكل بعض الصحابة، فقال: كيف يحشرون على وجوههم؟ يمشون على وجوههم! قال: أليس الذي أقامهم على أرجلهم قادرا على أن يمشيهم على وجوههم؟ يعني يطئون حر النار، ويطئون جمرها وسعيرها بوجوههم التي هي أشرف الأعضاء، والتي فيها سمعهم وأبصارهم وألسنتهم وخدودهم تحرقهم النار -والعياذ بالله- ويقول الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا } كلما نضجت؛ يعني كلما تمزقت جددت؛ حتى يتألموا؛ ليذوقوا العذاب ليذوقوا شدة العذاب. هذا عذابهم على كونهم لم يطيعوا الله تعالى ولم يمتثلوا أمره. لا شك أن هذه من المواعظ التي إذا تذكرها المؤمن وصدق بها عُرِفَ أثرها عليه؛ فنقول: إن الإنسان إذا ذكر وتذكر حدث له من آثار هذا التذكر تغير في سيرته؛ فالذين يؤمنون بعذاب الدنيا؛ أي أن الله تعالى يعذب العصاة، يمتنعون من المعاصي، ويبتعدون عنها لو كان عذابا دنيويا، وكذلك الذين يؤمنون بعذاب الآخرة يحذرون المعاصي ويبتعدون منها، ويعرفون أن السبب في هذا العذاب هو فعل هذه المحرمات ونحوها. ورد عن بعض السلف قال: عجبت للجنة كيف ينام طالبها؟ وعجبت للنار كيف ينام هاربها؟ يعني الذي يؤمن بالجنة كيف يهنيه المنام، وكيف يهنيه العيش، وكيف تهنيه الدنيا؟ وكيف تهنيه الملذات؟ ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: { لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله } ؛ أي لو أطلعنا الله تعالى على ما أطلع عليه نبيه -صلى الله عليه وسلم- في الدار الآخرة من الأهوال ومن الأفزاع ومن المخاوف؛ لتغيرت حالتنا، ولتغيرت سيرتنا، ولما ركنا إلى هذه الدنيا، ولشغلنا أوقاتنا بعبادة دائمة لا نفتر منها. وهكذا كان العارفون الذين عرفوا الله تعالى، وعرفوا ما يجب له، وعرفوا وعده ووعيده؛ فإنهم جدوا في طلب الآخرة، في طلب الجنة، وفي الهرب من النار؛ حتى قال بعضهم: والله لو توعدني الله أنه يحبسني في الحمام فقط لكان علي أن أبكي، وألا أستقر في هذه الدنيا فكيف وقد توعد من عصاه بأن يحبسه في هذه النار التي أخبر الله تعالى بشدة عذابها؟! فأولا: إذا تذكر المؤمن مآل الدنيا، وتذكر مبدأ أمره؛ تذكر مبدأ خلقه من ضعف، وتذكر نهايته الموت، وتذكر عذاب القبر ونعيمه، وتذكر البعث وأهواله ويوم القيامة وأفزاعه، وتذكر عذاب النار وما فيها من العذاب الشديد؛ فإن ذلك يحدث له تذكرا، وهو معنى قوله تعالى: { فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } . |