بعد ذلك الذين يتعلمون عليهم أيضا أن لا يحرجوا العلماء، ولا يشددوا عليهم؛ بل يأتوهم في وقت الراحة، وفي وقت الطمأنينة، ويسألوهم عما أشكل عليهم؛ إذا رأوهم في حالة ارتياح وحالة طيب نفس، أما إذا ضجروا وملوا وكسلوا، وجاءهم ما يثقلهم فلا يجوز إحراجهم في مثل هذا، ومع ذلك فإن على من عرف ما أعطاه الله تعالى، وما فضله به من هذا العلم الشريف؛ عرف ذلك عليه أن يجد في طلب العلم؛ حتى يكون من حملة العلم الذين لهم هذا الفضل، ولهم هذا الشرف. ثم معروف أيضا أن هناك من يتسمون بالعلم، ويفتخرون بأنهم من أهل العلم، ثم يحملهم هذا التسمي، وهذه الرتبة على أن يفخروا على غيرهم، وأن يلتمسوا عثرات الآخرين، ويطعن بعضهم في بعض، ويعيب بعضهم بعضا؛ فمثل هذا لا ينبغي لطالب العلم؛ ومع ذلك فلا ينبغي أن يؤخذ كلام عالم في عالم ؛ وذلك لأن ذلك قد يكون من باب المنافسة والغبطة أو الحسد، أو ما أشبه ذلك؛ ولذلك لا يقبل كلام بعضهم في بعض؛ كلام حملة العلم بعضهم في بعض إذا كان الحامل على ذلك المنافسة في المنصب، أو المنافسة في الشهرة، أو ما أشبه ذلك. نقل أن في عهد تابعي التابعين الإمام مالك -رحمه الله- معترف بفضله، ومعترف بعلمه. في زمنه عالم أيضا مشهور، وهو صاحب السيرة محمد بن إسحاق بن يسار ومع ذلك كان بينهما منافسة، وتكلم هذا في هذا، ولكن أهل العلم لم يأخذوا طعن أحدهما في الآخر؛ بل كل منهما له اجتهاده، ولا يقبل طعن هذا في هذا؛ قول هذا إنه كذا وإنه كذا. كذلك أيضا وقع كثير من العلماء في أهل زمانهم؛ يعني: منافسات فيما بينهم، فلا ينبغي أولا: لا تنبغي هذه المنافسة. طالب العلم عليه أن يُذل نفسه، وأن يحقر نفسه لإخوانه الذين هم مثله، والذين هم من طلبة العلم، والذين آتاهم الله مثل ما آتاه، ولا يشمخ بأنفه، ولا يترفع عليهم، ولا يتكبر عليهم، فإنه متى كان كذلك رفعه الله تعالى، ورفع قدره، وأيضا لا ينافسهم، ولا يحسدهم على ما آتاهم الله تعالى من منزلة، ولا يطعن فيهم، أو يتتبع عثراتهم، أو يلتمس أخطاءهم، ويجعلها طعنا في دينهم، وينسى فضائلهم ومآثرهم، وفوائدهم التي بذلوها في طلب العلم؛ فيقتصر على ذكر المساوئ، وينسى المحاسن، على حد ما قال الشاعر: ينسى من المعروف طودا شامخا وليس ينســى ذرة ممــن أسـى فهؤلاء لا يستمع إليهم. كذلك أيضا الذين يَغلون في بعض طلبة العلم، ويرفعونهم فوق قدرهم، ويعطونهم ما لا يستحقونه؛ لا ينبغي ذلك أيضا. كذلك أيضا لا يجوز التعصب لواحد من العلماء دون الآخر. إذا كان الإنسان يميل إلى أحد المشائخ، ويرى أنه أفضل من غيره تعصب له، وتحامى معه، وأخذ يظهر فضله، ويكتم أخطاءه، أو يطعن في غيره؛ يطعن في غيره ممن هم دونه، أو ممن هم مثله، أو ممن هم فوقه، ويُحقرهم، ويرد أقوالهم ولو كانت صوابا، ويتعصب لذلك الشيخ ولو كان قوله خطأ؛ لا يجوز ذلك، وقد أدى هذا التعصب إلى ترك كثير من الأدلة، والتمسك بالمذاهب الخاطئة، وترك النصوص الواضحة الصحيحة؛ لأجل ذلك التعصب والحمية الجاهلية؛ كما يرى كثيرا في بعض الكتب التي يتعصب أهلها لمذهب معين، ويتركون الأدلة. طالب العلم عليه أن يأخذ الحق ممن جاء به -ولو كان يبغضه- يقول بعض العلماء: اقبل الحق ممن جاء به وإن كان عدوا، ورُدّ الباطل على من جاء به وإن كان صديقا. فيشاهد أن كثيرا من الذين يبغضون إمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- يمنعون تلامذتهم أن يقرءوا في كتبه، وأن يستمعوا إلى من يدعو إلى دعوته؛ لماذا؟ تعصبا لمذهبهم أو إرضاء لرؤسائهم الذين هم على نهجهم وعلى مسلكهم؛ مع أن هذه المؤلفات التي كتبها -رحمه الله- اعتمد فيها على النصوص الشرعية؛ النصوص الصحيحة؛ كما إذا قرأت كتاب "التوحيد"، وكتاب "كشف الشبهات"، وما أشبهها، ولو أنهم قرأوها بإمعان وبتأمل؛ لعرفوا أن فيها الحق، وأنه ليس فيها تعصب لمذهب ولا انتصار لشيخ، ولا تشدد لطريقة من الطرق. فهكذا يكون طالب العلم محبا للعلم وأهله؛ سالكا المسلك الشرعي الذي إذا وفقه الله تعالى لسلوكه اهتدى، وأصبح بذلك مصيبا الحق، وأما إذا رد قول عالم لكونه يحتقره أو يبغضه، وتشدد في قبول عالم آخر لكونه يحبه، ويغلو فيه، أو ما أشبه ذلك، فإن هذا من القول الخطأ. |