المذاهب الفقهية وتقليدها

- الله يجزيكم بالخير. طيب فضيلة الشيخ يعني كثر في زماننا هذا من ينهى عن النظر في كتب الفقهاء المؤلفة على مذاهب الأئمة، ويعيبها بأنها تتقيد بقول إمام معين، وأنها ما تنظر في الأدلة، ويرون أن الواجب دراسة الفقه من خلال كتب أحاديث الأحكام لا من خلال المتون الفقهية المعروفة، وقد يتجاوزون ذلك إلى عدم -أو بعضهم على الأقل- إلى عدم تقدير أقوال الأئمة والاستهانة بها، فهل هذا المسلك صحيح؟ وبعضهم يوجب حتى على العامي البحث عن الدليل، فهل هذا المسلك صحيح؟ وما هو الصواب في هذه المسألة؟ نحن لا نتهم الأئمة وكبار العلماء بأنهم يقولون على الله بغير علم -حاشاهم من ذلك-؛ فإن القول على الله تعالى بلا علم ذنب كبير حرمه الله في قوله تعالى: { وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وقد كان كثير من الأئمة يتحرجون من أن يقولوا بغير علم، وكان الإمام أحمد إذا سئل عن مسألة لم يذكر فيها دليلا لم يتجرأ أن يبت فيها؛ ويخشى من قول الله تعالى: { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ } وغيرها من الآيات. فنحن نقول: إن الأئمة مجتهدون، إذا نزلت فيهم نازلة أفتوا فيها بما حضرهم من الأدلة، وإذا لم يحضرهم دليل اجتهدوا، ونظروا في أقرب ما يمكن أن يقال به فقالوا به، فهذا هو عمل الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ولكن لا شك أنه وقع في بعض اختياراتهم شيء من الغلط المخالف للدليل أو للتعليل، ثم اشتهرت مؤلفاتهم، وقلدهم من جاء بعدهم، ولما افترقت الأمة إلى هذه المذاهب الأربعة؛ صار أهل كل مذهب يتعصبون لمذهب إمامهم، ويتشددون في نصر أقواله، ويردون أقوال من خالفه، ولو كانت مؤيدة بالدليل. فهذا التعصب نقول: إنه لا يجوز، كما وقع في كثير من كتب المتأخرين، الذين يتعصبون لأقوال أئمتهم، فنحن نقول لطلبة العلم: لا تنظروا في الكتب التي فيها شيء من التعصب والتشدد في اختيار قول، والتشدد في رد الأدلة التي تخالف ذلك الدليل، ولكن لا تهجروا هذه الكتب المؤلفة على المذاهب كلها؛ فإن أحكام الشرع ليس لها نهاية، والأدلة التوقيفية محصورة، ولا يمكن أن يكون كل حكم يقع بالناس إلى يوم القيامة يكون عليه دليل منصوص من آية أو حديث، وإنما تؤخذ الفتاوى لتلك الوقائع من عمومات وردت في السنة، أو من قواعد فقهية استنبطها العلماء من أهداف الشريعة، فلا يقال إنهم بتقعيدهم تلك القواعد ضالون مخطئون؛ لأن لهم أدلة عليها. فبكل حال نقول لطلبة العلم: لا تهجروا كتب العلماء كلها؛ فإن فيها فوائد ووقائع لم تقع في زمانهم، ولكن وقعت بعدهم ، وكذلك أيضا عليكم أن تأخذوا ما يؤيده الدليل أو يؤيده التعليل، فلو طلبتم دليلا على كل واقعة لن تجدوا دليلا يدل عليها، ولو اقتصرتم على كتب الأحاديث لن تكفي في الوقائع التي وقعت في هذه الأزمنة؛ فعليكم أن تأخذوا من هذه الكتب ما يناسبكم، وما يكون جوابا واضحا لمسألة واقعية، وإذا رأيتم أن صاحب هذا الكتاب يتعصب لمذهبه ويرد الأدلة فلا تأخذوا منه هذه الأقوال التي تعصب فيها لنصر قول، وتقييد إمام معين. ونشير عليهم بأن يقرءوا في الكتب التي تعمل بالفقه المقارن مثل: كتاب المغني للإمام ابن قدامة والشرح الكبير لابن أخيه ابن أبي عمر ؛ حيث تذكر المذاهب كلها، وتذكر دليل كل مذهب، ويكون الدليل مع القول، أو كذلك التعليل إذا لم يكن هناك دليل، وهكذا أيضا كتاب ابن حزم الذي سماه المحلى، فإنه يستطرد ويذكر الأدلة، وإذا كان عندهم قدرة على قراءة كتب الأحاديث وشروحها واكتفوا بما فيها فلا بأس بذلك. نعم. - طيب فضيلة الشيخ: الطالب في بداية طلبه للعلم الفقهي، وهو ما يزال ضعيف الملكة أو نحو ذلك، هل الأوفق له أن يتخذ متنا من متون المذاهب فيقرؤها ويدرسها، أو الأوفق له أن يأخذ كتابا من كتب الأحاديث فيقرؤه على شيخ متقن ويأخذ برأي هذا الشيخ في المسائل؟ نرى أنه يحفظ بعض المتون التي يكون معها أدلة، فابن قدامة -رحمه الله- بدأ تآليفه بهذه الرسالة التي هي "العمدة"، وجعل فيها أدلة وأحاديث، فمن حفظها صار عنده شيء من العلم والفقه؛ فيكون على جانب من الفقه إذا حفظه، وكذلك أيضا كثير من المتون التي ظهرت، إذا حفظها رجي بذلك أن يكون معه حصيلة علمية، يستحضر بها ما يقع من الأدلة من الوقائع. ولا يغنيه ذلك عن أن يقرأ أيضا في كتب الحديث؛ أن يحفظ كتاب بلوغ المرام، وإن كان فيه شيء من الأحاديث الضعيفة، فيعرف الضعيف، ويعرف الصحيح، ويقرأ في شروحه ويتأمل ما جاء فيه، وهو بذلك يكون عنده حصيلة من العلم، يرجع إليها عند الحاجة.