ولا شك أن هذا هو الأصل في التكاليف، لو ما جاءتنا رسل الله ما عرفنا أركان الإسلام، ولا عرفنا أركان الإيمان بالتفاصيل، ولا عرفنا كيف نتعبد الله بالخوف والرجاء والمحبة، ولكنه -سبحانه وتعالى- قطع الحجة، قطع المعذرة؛ فبين ما يحتاج إليه الإنسان بالتفاصيل على ألسن رسله، فما بقي لأحد عذر. جاءت الرسل فعرَّفوا تعريفا ظاهرا جليا، عرَّفوا الخلق -الذين هم الجن والإنس- بما خلقوا له: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } وكيف تكون العبادة؟ عرَّفوهم بأركان الإسلام، وأركان الإيمان، وكيفية أداء هذه الأركان، وعرفونا بالمحرمات التي حرمها ربنا علينا في هذه الدنيا. عرفونا بتحريم الشرك صغيره وكبيره، وتحريم المعاصي قليلها وكثيرها، تحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتحريم الإثم، وتحريم العدوان، والسرقة والقتل والظلم وغير ذلك. وأمروا بضد ذلك: أمرونا بالعدل والإحسان، وأمرونا بأمر الله –تعالى- بالبر والصلة، وأمرونا بالإحسان إلى كل ذي إحسان، لا شك أنها قامت الحجة على العباد. كان من جملة ما بينوا للبشر: أن الإنسان في هذه الحياة الدنيا عمره محدود، وأن له نهاية، مع أنه يعرف ذلك بالطبع والعادة. وكذلك أنه ليس بمُهمَل: { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا } ؛ فيعرف الإنسان بواسطة الرسل أنه بعد قليل أو كثير -بعد مدة- أنه سوف يموت، وأنه بعد الموت غير مهمل، لا بد أنه -أي أنه- يلاقي جزاءه الذي عمله في الدنيا على عمله، ليس بمهل، وأن ربه -سبحانه- لا بد أن يجازيه على إحسانه، قال الله تعالى: { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } . الذين أساءوا السيئات يعني عملوا في الدنيا سيئاتهم فكفروا وفسقوا وابتدعوا، وفحشوا وقذفوا وزنوا، وسرقوا وخانوا، وقطعوا الطريق، وآذوا عباد الله، وكذلك فعلوا المحرمات وما أشبهها، سكروا وتعاطوا الفواحش والمنكرات وما أشبهها؛ يجزيهم بإساءتهم: { مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا } . { وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } الذين أحسنوا في الدنيا: عملوا الصالحات، حافظوا على الصلوات، أكثروا من ذكر الله، قرءوا كتاب الله وتدبروه، دعوا الله مخلصين له الدين، أحسنوا إلى عباد الله، نصحوا، أمروا بالمعروف، نهوا عن المنكر، أطاعوا الله تعالى، بروا آباءهم، وصلوا أرحامهم، أحسنوا إلى جيرانهم، أحسنوا إلى المسلمين، بذلوا السلام للعالم، عادوا المريض، اتبعوا الجنائز، وصلوا إخوانهم، نصحوا في ذات الله -سبحانه وتعالى- أحبوا من يحبهم الله، وأبغضوا من يبغضهم الله، والَوا فيه وعادَوا فيه، وأعطوا له ومنعوا لله، ووصلوا ما أمر الله به أن يوصل، وقطعوا ما أمر الله به أن يقطع، أحبوا في الله وأبغضوا في الله؛ { وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } . فهكذا جاءت الأخبار، فمن الناس من صدق الرسل، واستدل على صدقهم بما جرى على أيديهم، بما يجري على أيديهم من هذه المعجزات والكرامات وما أشبهها، وما أيدهم الله تعالى به من الشرائع؛ فعلموا صدقهم، وتقبلوا نصائحهم، واستعدوا للقاء الله تعالى. جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر قول الله تعالى: { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } فقال: { إن الدين إذا دخل القلب انفسح وانشرح، قالوا: فهل لذلك من علامة؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله } . هكذا { الإنابة إلى دار الخلود } يعني البقاء، دار الخلود: هي الدار الآخرة، يعني الاجتهاد في العمل للدار الآخرة، والزهد في الدنيا، وعدم الإقبال عليها، وعدم الانشغال بها عن الآخرة، وعدم فعل الشيء الذي يشغل عن العمل الصالح، أو يعوق الإنسان عما أُمر به { والاستعداد للموت قبل نزوله } ؛ وذلك لأن الموت يأتي بغتة، فالاستعداد له هو أن يتهيأ، وأن يقول في كل يوم: يمكن أن يكون هذا آخر حياتي، يمكن أن ينقطع عمري، وما بقي لي إلا هذه الساعة، أو نحوها. وكذلك أيضا جاء في حديث آخر، يقول -صلى الله عليه وسلم- { الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني } الكيس: هو العاقل الحازم الذكي، هو الذي دان نفسه -يعني حاسبها واتهمها- واتهم نفسه أنه مخل مقصر بكثير من حقوق الله، فكلما فكر في أعماله استقلها، وقال: أين عملي بالنسبة إلى أعمال الصالحين؟ ما عملت إلا قليلا، أنا المخل، وأنا الناقص في عملي، وأنا المقصر فيما أمرت به؛ فيدين نفسه، ويتهمها ويحاسبها، ويجتهد فيما أُمر به. فيكون ذلك علامة على أنه مهتم بنفسه وبما يصلحها، وأنه ليس اهتمامه بنفسه هو اهتمامه بشهواته؛ بمطعمه ومشربه، وملبسه ومنكحه، ومسكنه ومركبه، ونحو ذلك، بل الأمر أعم من ذلك، الأمر أكبر: وهو أن يعرف أن عليه واجبات، وأنه مهما تقرب به من هذه القربات العاجلة فإنها قليلة بالنسبة إلى ما يجب عليه. هذا هو الذي دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، عمل للدار الآخرة، عمل للبرزخ، وعمل ليوم القيامة، وعمل لدار القرار، وعلم أنه إما في جنة وإما في نار؛ فيحرص على أن يعمل العمل الذي ينجيه من عذاب ربه. وأما العاجز والمتكاسل فوصفه بأنه: { من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله } يعمل عمل الفجار ويتمنى أن يكون مع الأبرار، ينام مع النائمين ويتمنى أجر القائمين، يبخل مع الباخلين ويتمنى أجر المنفقين، يتكاسل مع المتكاسلين ويطلب أجر المصلين، لا شك أن هذا هو الغرور. وإذا كان كذلك فإن العاقل يحرص على أن يدين نفسه، وعلى أن يحاسبها على الدقيق والجليل، وأن لا يكون مع هؤلاء الكسالى والمتثاقلين الذين يهملون أنفسهم، ولا يفكرون في مآلهم؛ فيكون بذلك من أولياء الله تعالى الذين يحبهم الله تعالى، ويوفقهم ويعينهم. أما الذي يتبع نفسه هواها فهو الذي كلما مالت نفسه إلى شئ اتبعه دون أن يفكر في عاقبته، هل هو طيب أو خبيث؟ إذا رأى الناس –مثلا- في نظره أنهم ينعمون أنفسهم بالنزهات والفرجات ونحوها؛ لم يفكر في عاقبتهم، إذا رأى أنهم يتعاطون شيئا من المحرمات: كشرب المسكرات، وتعاطي المخدرات، وشرب الدخان وما أشبهه؛ ظن أن هذا لا بأس به. يقول كثير منهم: لو كان ممنوعا أو فيه ضرر لأضر بفلان وفلان، ولو كان حراما لما أكب عليه هؤلاء مع كثرتهم وعددهم، وأنهم متميزون بالعقل، وبالإدراك وبالفهم؛ فيقلدهم وكأنه يقول: رأيت الناس يفعلونه فعرفت أنه مباح أو لا إثم فيه أو ما أشبه ذلك؛ فيتمكن منه الشر والفساد. ووردت أدلة في النهي عن اتباع الهوى، قال تعالى: { كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } زُيَّن لهم، ما الذي زَيَّن لهم أعمالهم السيئة؟ أعداؤهم؛ وذلك لأن الإنسان سُلط عليه كثير من الأعداء في الدنيا، فسلط عليه الشيطان الذي يضله ويهديه إلى عذاب السعير، وسلطت عليه نفسه الأمارة بالسوء، التي تميل به إلى ما يناسبها، وتستثقل الطاعات، وتستحلي المحرمات، وسلط عليه الهوى الذي يعمي ويصم، يعني: أنه يعمي فكره، ويصم سمعه، ويصده عن هداه، وسلطت عليه الشهوات التي هي شهوات الدنيا وزينتها، فإذا أعانه الله تعالى وغلب هذه الأعداء فإن قلبه يكون صالحا. |