بعد ذلك يقول: "العالم الخبير، المدبر القدير، السميع البصير، العلي الكبير". العالم، من صفات الله تعالى صفة العلم، ذكر الله تعالى أنه بكل شيء عليم، بكل شيء، وأنه عالم بالإنسان { ونعلم ما توسوس به نفسه } { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } هكذا { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } . كذلك أيضا علمه -سبحانه وتعالى- يعم ما سبق وما لحق وما بقي، يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وقد كتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة، وذلك كله من علمه، وعلمه لا يحيط به المخلوقون، ولا يمكن أن يعرفوا إلا ما أطلعهم عليه كما في آية الكرسي: { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ } وذلك على الله يسير، يقول تعالى: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } ويقول تعالى: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } أي من قبل أن ننشئها ونخلقها قد علمها الله تعالى وقد كتبها { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } أخبر سبحانه وتعالى بأنه عالم بكل شيء، ويقول تعالى: { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ } أنثى أيًّا كانت تلك الأنثى، ومن دواب البر ومن دواب البحر، ومن الحشرات ومن الطيور ومن بهيمة الأنعام، كل أنثى تحمل أو تضع فإن الله تعالى عالم بها قبل حملها وقبل وضعها، وبعدد ما يتكون من ولدها ونحو ذلك، { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } . والعليم الخبير صفتان متقاربتان، فهو الخبير الذي خبر كل شيء، عَلِمه وخبره بحيث أنه عنده خبر كل حادث يحدث، والمدبر الذي يدبر الأمور، قال الله تعالى: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ } من يدبر الأمر؟ من الذي يسير النجوم والأفلاك؟ ومن الذي يرسل الرياح؟ ومن الذي ينشئ السحب؟ ومن الذي يرزق هذه المخلوقات؟ { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا } فهو المدبر لها، القدير الذي هو على كل شيء قدير، لا يخرج عن قدرته شيء، أي هو قادر على كل شيء، لا يخرج عن قدرته شيء، ولا يعجزه شيء، قال تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ } ما كان الله ليعجزه من شيء، بل هو قادر على كل شيء. هناك طائفة من بعض المعتزلة يجعلون بدل هذه "على كل شيء قدير" "إنه على ما يشاء قدير" هكذا، وهذه العبارة قد أنكرها العلماء -ولو استعملها بعض العلماء كابن كثير في التفسير على حسن ظن- ولكن نقول: إنها عبارة مدخولة، فالواجب أن نقول: إن الله على كل شيء قدير، لا يخرج عن قدرته شيء، ولا يعجزه شيء، قادر على الموجودات وعلى المعدومات، يقدر أن يحدث المعدومات وغيرها، يقدر على أن يجمع بين الضدين ونحوهما، قادر على كل شيء. "السميع البصير" يعني من صفاته –سبحانه- السمع والبصر، نعرف أن السمع هو إدراك الأصوات، وأن البصر إدراك المرئيات، إدراك الأشخاص، وأن ضد السمع الصمم، الأصم هو الذي لا يسمع، وضد البصر العمى، الأعمى هو الذي لا يبصر، ولا شك أن الذين نفوا السمع والبصر يلزمهم أن يثبتوا -ولا بد- أنه متصف بضد السمع وهو الصمم وبضد البصر وهو العمى، لازم لهم لا محيد لهم عنه. وإذا قالوا: إنكم إذا قلتم سميع بصير فالإنسان سميع بصير فيكون هذا تشبيها. فنقول: ننزه الله تعالى عن أن يكون له شبيه، عن أن يكون له شبيه في هذه الصفة التى هي السمع والبصر، فلا نقول إن سمعه مثل سمع المخلوق، يعني يحتاج إلى آذان وإلى طبقات آذان وما أشبهها، ولا إنه يحتاج إلى طبقات الأعين وما أشبهها، لا شك أنا ننزه الله عن أمثال ذلك. ولكن نقول: إن الله تعالى يدرك الأصوات، وإنه لا يشغله سمع عن سمع، وإنه يسمع كلامه البعيد، والمخلوق إنما يسمع القريب، والمخلوق تشتبه عليه الأصوات، لو تكلم عنده خمسة كلهم في حين واحد ما سمع قولهم كلهم، واشتبه عليه صوت هذا بهذا، وليس كذلك الرب -سبحانه وتعالى-؛ فإنه يسأله مائة ألف أو ألف ألف في آن واحد، ومع ذلك يعطي كل منهم مسألته، ولا يشغله هذا عن هذا. وكذلك أيضا البصر، المخلوق بصره يستره في الحجب، الرب تعالى لا يستر بصره شيء، فيخرق بصره المخلوقات كلها، ولا يحجزه شيء، ولا يستر بصره حجاب، وليس كذلك بصر المخلوق، فإنه بصر قاصر، نثبت هذه الصفة لله تعالى. ثم نقول: ما فائدة الإيمان بأن الله تعالى عليم وبأنه سميع وبأنه بصير؟ ما الفائدة من ذلك؟ الفائدة هي المراقبة، وهو كون الإنسان يراقب ربه، يعلم أن الله تعالى يراه حيثما كان، جاء في الحديث: { أفضل الإيمان أن تعلم أن الله يراك حيثما كنت } فمن استحضر أن الله تعالى يراه في كل الحالات امتنع أن يعصيه ولو كان خاليا، فإنه يستحيي من ربه. فجاء في بعض نصائح العلماء نصح إنسان أميرا فقال له: "استحي من الله أن يراك حيث نهاك وأن يفقدك حيث أمرك" يعني يحملك حياؤك من الله أن يراك حيث نهاك تفعل شيئا قد نهاك عنه، فإنه يراك ولو كنت خاليا، فعليك أن تستحيي منه. وجاء في حديث أن رجلا قال: { يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ فقال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك. قال: أرأيت إذا كان أحدنا خاليا؟ } يعني هل له أن يتجرد ويكشف عورته؟ { قال: الله أحق أن يستحيا منه } الله تعالى يراك فكيف مع ذلك تتجرد وأنت في برية وتقول لا يراني أحد، استحي من الله تعالى حق الحياء. وكذلك أيضا مما أثر من بعض القصص التي يذكرها الواعظون كابن رجب في شرح الخمسين حديثا وغيره، ذكر أن رجلا خلا بامرأة أعرابية في برية في ليلة مظلمة، وروادها على نفسها وقال: ما يرانا إلا الكواكب. فقالت: فأين مكوكبها؟ يعني استحضرت أن الله تعالى هو الذي خلقها وأنه يرانا. وكذلك أيضا ذكر أن رجلا دخل على امرأة في بيتها، وطلب أن يزني بها، وأمرها أن تغلق الأبواب، ففعلت وقالت: بقي باب واحد وهو الذي بيننا وبين الله. فوجل واقشعر جلده وتركها، استحضر أن الله تعالى لا يستره شيء عن عباده. فهذه فائدة الإيمان بأن الله سميع، إذا كنت تؤمن بأن الله يسمع كلامك فإياك أن تتكلم بكلمة تعصي ربك بها أيًّا كانت تلك الكلمة ولو كانت خفيه، وإياك أن تفعل فعلا هو معصية لله ولو كنت في خلوة؛ فإن عليك رقيبا { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا } . من صفات الله تعالى: "العلي الكبير"، العلي بأنواع العلو، نثبت الأنواع الثلاثة: علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات، فهو علي بذاته فوق عباده، وهو علي القدر يعني قدره أعظم من أن يقاس بخلقه وأن يشبه بخلقه، وعلي القهر أي أنه غالب وقاهر لعباده، قد يقول بعض المخلوقين: "إني علي" يعني قاهر لهؤلاء، كما قال فرعون: { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } يعني الغالب والقاهر، فنقول: الله تعالى هو العلي الأعلى، وهو العلي بذاته، وهو العلي بقدره وبقهره، وبجميع أنواع العلو. وهو الكبير { الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ } والمتكبر، من أسماء الله تعالى الكبير، الذي لا أكبر منه، ولأجل ذلك يرفع معنى هذه الكلمة رفعا عاما، فالمؤذنون يرفعون أصواتهم بـ "الله أكبر"، والمصلي يتنقل في صلاته بقول "الله أكبر"، فيكبر في كل ركعة خمس تكبيرات، يكبر في الرباعية ثنتين وعشرين تكبيرة، وفي المغرب سبعة عشر تكبيرة، وفي الفجر إحدى عشرة تكبيرة "الله أكبر"، فائدة ذلك أن يستحضر أن الله هو أكبر من كل شيء، وإذا كان كذلك فإنها تصغر عنده نفسه، ويحتقر نفسه، ويحتقر المخلوقات كلها، ويبقى قدر ربه عظيما في قلبه، فلا يكون أحد أكبر من ربه -سبحانه وتعالى- فيحترمه ويعظمه. |