تعريف العبد بما خلق له وما فرض عليه

اعلـم بأن اللـه جــل وعـــلا لم يترك الخلـق سـدى وهـمــلا بل خلـق الخـلـق ليعـبـــدوه وبالإلهيــة يــفـــــــردوه أخرج فيما قد مضـى مـن ظهــر آدم ذريتـــه كالــــــــذر وأخذ العهــد عليهــم أنــــه لا رب معبـود بحــق غــــيره وبعد هذا رسـلـه قــد أرســلا لهم وبالحـق الكتـــاب أنـــزلا لكي بـذا العهـــد يذكــروهـم وينـذروهـم ويبـشـــروهــم كي لا يكون حجــة للنــاس بـل لله أعلى حجــة عــز وجـــل فمن يصدقهــم بــلا شـقــاق فقد وفــى بــذلك الميثــــاق وذاك ناج مـن عــذاب النـــار وذلك الوارث عقبـــى الــــدار ومن بهـم وبالكتــاب كـذبـــا ولازم الإعراض عنــه والإبـــا فذاك ناقــض كــلا العهــدين مستوجب للخزي فــي الـداريــن هذه مقدمة وذكر فيها العهد الذي أخذه الله تعالى على الخلق وهم في أصلاب آبائهم، وذكر فيها الحكمة في خلق الجن والإنس: اعلم بأن اللــه جــل وعـــلا لم يترك الخلق ســدى وهـمــلا يعني أنه سبحانه ما خلقهم هملا، قال تعالى: { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } يعني: لا يؤمر ولا ينهى، هذا ظن باطل، وقال تعالى: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا } يعني أن خلقكم عبث لا لحكمة؛ بل خلق جميع المخلوقات قال تعالى: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ } ؛ فالله تعالى لا يخلق شيئا من خلقه عبثا ومهملا لا يستفاد منه وليس فيه حكمة؛ بل كل شيء خلقه فلا بد فيه من حكمة، ما ترك الخلق سدى، ولا تركهم هملا، ولا خلقهم عبثا. بل خلـق الخــلـق ليعبـــدوه وبالإلهيـــة يـفـــــــردوه خلقهم لعبادته قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } واللام في { إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } لام التعليل؛ يعني العلة في خَلْقِه لهم أن يعبدوه، خلقهم لعبادته، فعل بهم الأول أي: خلقهم؛ ليفعلوا الثاني أي: ليفعلوا العبادة، فعل بهم الأول؛ ليفعلوا هم الثاني، خلق الخلق؛ ليعبدوه وحده. والعبادة في الأصل هي: التذلل الذل والخضوع، ويسمون المماليك عبيدا؛ لأن المملوك مذلل لسيده، والخلق كلهم عبيد الله لأنهم ذليلون لعظمته، والعبادة هي: التذلل لله سبحانه، والخضوع له، والاستكانة بين يديه، ويعرفها شيخ الإسلام بأنها: غاية الحب مع غاية الذل، غاية الذل يعني التذلل، ولا بد أن يكون معه محبة، يتذللون لربهم ويحبونه. ونظم ذلك ابن القيم في النونية: وعبادة الرحمن غايــة حبـــه مع ذل عابـده هـمـا قـطبــان وعليهما فلَكُ العبـــادة دائـــر ما دار حتى قـامـت القطبـــان ومداره بالأمـر أمـر رسولـــه لا بالهوى والنفـس والشيطـــان فلا يكون العبد عابدا متعبدا إلا إذا كان محبا لمعبوده، ومتواضعا له؛ يعني معترفا له بالعبودية، ومع ذلك متواضع له، خلق الخلق ليعبدوه، وبالإلهية يفردوه؛ أي: يخصوه بالإلهية فلا يألهون غيره، والتأله هو: التعبد، الإله هو: الذي تألهه القلوب أي تحبه، وتعظمه بالإلهية، بجميع أنواع التأله يخصوه، هذه هي الحكمة من خلق الخلق.