الحديث الأول ذكر فيه فضيلة وهي دخول الجنة؛ ولكن ما ذكر في هذا الحديث إلا التوحيد وتحقيقه، وكذلك الإيمان بالغيب، يقول: { من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له } هذه هي الشهادة الأولى، الشهادة في الأصل هي: الاعتراف بالشيء والإقرار به، كأنه قاله عن مشاهدة؛ يعني كأنه قاله عن رؤية، رؤية الشيء تسمى مشاهدة؛ فلذلك يطلق على كل ما شاهدته ورأيته أنك تشهد به. العباد يشهدون لله تعالى بالوحدانية وإن كانوا لم يروه؛ ولكن عرفوا الله بآياته وبمخلوقاته، فلما رأوا آياته شهدوا له، وكذلك أيضا جاءتهم رسله فشهدوا لهم بالصدق، وتقبلوا ما جاءوا به، ومن جملة ما جاءوا به توحيد الله، فلا بد أن يكون الشاهد شهد عن يقين. متى كانت الشهادة عن يقين بأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ فإنها تحمل صاحبها على العمل، على أن تكون كل عباداته لله، إذا شهد أنه الله الإله الحق، المتوحد، المنفرد عن الشركاء والأنداد والأضداد، أيقن بذلك وامتلأ به قلبه فإن عاقبته حميدة؛ حيث إن أعضاءه تشتغل كلها بعبادة الله، وحيث أن قلبه يكون ممتلئا بمعرفة ربه، وحيث أنه يشتغل بجميع الطاعة، ولا يفعل شيئا من المحرمات، وحيث أنه يصرف جميع العبادة لله ويصد بقلبه عن غيره؛ فيجد للطاعة لذة وراحة ومحبة، وينفر قلبه من المعصية، ويبتعد عنها ويكرهها ويكره أهلها، هذا هو حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله . وإذا لم يفعل ذلك فذلك لنقص معرفته، إذا رأيت الذي يقول: لا إله إلا الله يحب غير الله كحب الله، أو يدعو غير الله مع الله، أو يعظم مخلوقا كتعظيم الخالق؛ فاعلم أن شهادته ناقصة، وأن معرفته لله تعالى مختلة؛ لأن المعرفة التامة يظهر أثرها على العابد، فلا بد أن من شهد أن لا إله إلا الله يوحد ربه، ويقر له بجميع أنواع العبادات، ولا بد أنه يطيعه فيحافظ على الصلوات، والصدقات الواجبة، والنفقات المالية، ويصوم ويحج ويجاهد، ويدعو إلى الله، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وكذلك أيضا يبغض المعاصي كلها، فيبغض الكفر، ويبغض الشرك، ويبغض الزنا، ويبغض الربا، ويبغض الخمور، والمسكرات، ويبغض العقوق، ويبغض القطيعة، ويبغض التهاجر، وهكذا جميع المحرمات ينفر منها، ويجد لها نُفرة شديدة في قلبه، فهذا حقا هو الذي يعتبر شهد بشهادة الحق بلا إله إلا الله، ومن لم يكن كذلك فشهادته ناقصة. تعرفون معنى لا إله إلا الله: أن لا معبود بحق إلا الله، كما ذكر في المنظومة، أي: لا أحد يستحق أن يعبد، أو يصرف له شيء من أنواع العبادة إلا الله وحده، فهو الذي تفرد بالألوهية، وتفرد بالطاعة بأن يطاع، وتفرد بالربوبية وبالخلق وبالتدبير، فهو الإله الحق وما سواه من المألوهات التي تتخذ آلهة من دونه فإن إلاهيتها باطلة، سواء كانت تسمى آلهة، أو تسمى مشاهد أو سادة، أو نحو ذلك. ( وحده ) تأكيد كلمة التوحيد لا إله إلا الله فيها نفي وإثبات، أركانها اثنان: نفي وإثبات، فكلمة وحده تأكيد لأيهما؟ تأكيد للإثبات، لا شريك له تأكيد للنفي؛ يعني تقوية له. أما الشهادة الثانية أن محمدا عبده ورسوله فمعناه التصديق له، فسرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في " ثلاثة الأصول " يقول: شهادة أن محمدا رسول الله: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وما زجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع. طاعته في كل ما أمر به، وترك كل ما زجر عنه ونهى عنه، وتصديق أخباره التي أخبر بها عن الدار الآخرة، والأشياء الغائبة عنا التي لم نطلع عليها نصدقه؛ لأنه الصادق المصدوق، وكذلك أيضا من الشهادة له أو من علاماتها اتباعه؛ اتباع ما جاء به، قال تعالى: { وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } وقال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي } وقال تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . فثمرة الشهادة له بالرسالة: أن يطاع فيما أمر، طاعته فيما أمر، وتصديقه في كل ما أخبر به، وتصديقه فيما أخبر، والابتعاد عن ما نهى عنه، ترك ما نهى عنه وزجر، والاقتصار على شرعه فلا يعبد إلا بما شرع، لا يعبد إلا بالشرع الذي شرعه؛ الذي جاء به من عند الله تعالى، فلا تغير شريعته، فأوقات الصلاة لا تغير، لا يجوز مثلا تقديم الظهر في الضحى ولا تأخيرها إلى الليل، وأشباه ذلك، لا يعبد الله إلا بما شرع. أما الشهادة الثانية فهي شهادة أن عيسى عبد الله ورسوله، وذلك رد على النصارى واليهود؛ وذلك لأن النصارى غلوا، واليهود جفوا، اليهود يسبون عيسى ويسبون أمه ويقولون إنها زانية وإنه ابن زنا -لعنهم الله- يقول الله تعالى: { وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا } يعني افتراؤهم عليها أنها زنت وأن عيسى من الزنا، وأما النصارى فهم أهل غلو؛ فهم يقولون إن عيسى هو الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة . قال تعالى: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } كفرهم بذلك، وقال تعالى: { وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } ثم قال: { يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } ؛ فدل على أنهم مشركون بقولهم: { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } أو بقولهم: { إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ } أو بقولهم: { الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } . ثم أكد بأنه عبد الله ورسوله قال الله تعالى: { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ } يعني: لا يتكبر، ولا يتأفف، ولا يستنكف، يعني لا يأبى أن يصغر نفسه { أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ } بل هو عبد لله يعترف بالعبودية لله، ذكر الله تعالى ذلك عنه في أول ما تكلم به وهو في المهد في قوله تعالى: { قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا } فابتدأ كلامه باعترافه بأنه عبد الله. والعبودية تعتبر شرفا لأنبياء الله تعالى؛ ولهذا ذكر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- بوصف العبودية في ثلاثة مواضع أو أربعة أو أكثر في قوله تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } ما قال: على الرسول، وفي قوله: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } وفي قوله: { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } وكقوله: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ } فالعبودية تعتبر شرفا. إذا قيل هـذا عبــدهـم ومحبهـم تهـلل بشــرا وجـهــه يتبســم فهذا معنى أن العبودية لله تعالى صفة شرف وفضيلة، ذكر الله تعالى رسله باسم العبودية في قوله: { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ } { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ } { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } ؛ فسماهم عبيدا له، فكذلك عيسى عبد الله ورسوله، أي زاد أنه مع العبودية مرسل من ربه، أرسله إلى بني إسرائيل، دعاهم وقال: { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } . { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ } ؛ أي أنه خلق بكلمة "كن" التي ألقاها إلى مريم وأنه روح من الأرواح التي خلقها، روح من الأرواح أرسل بها جبريل -عليه السلام- فنفخ في درعها، أو في طرف كمها، فوصلت النفخة التي هي روح إلى الرحم فعلقت بهذا العبد الذي هو عيسى فلذلك يقال روح الله أي روح من الأرواح التي خلقها الله، وكل البشر من الأرواح التي خلقهم الله؛ يعني في قوله تعالى في آدم { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } وبذلك يعلم بأنه تميز بأنه خلق من أنثى بلا ذكر. إذا نظرنا في الخلق وإذا هم أربعة: آدم خلق من غير أب ولا أم، من غير ذكر ولا أنثى، زوجه خلقت من ذكر بلا أنثى، عيسى خلق من أنثى بلا ذكر، بقية الخلق خلقوا من ذكر وأنثى. ثم ذكر من تمام العقيدة وأن الجنة حق وأن النار حق؛ يعني اعترف بأن الجنة التي وعد الله تعالى عباده المتقين حق وثابتة، لا ريب في ثبوتها، وأنها دار النعيم، واعتقد أن النار حق، النار التي أعدها الله تعالى للكافرين، أنها حق وواقعة ولا بد فهذا حقيقة التوحيد، من كان كذلك أدخله الله الجنة على ما كان من العمل؛ أي ولو كان عمله قليلا. |