بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. وبعد: فهذا الدرس .. من دروس فضيلة الشيخ شيخنا عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين حفظه الله، وهو في " شرح سلم الوصول " للشيخ حافظ الحكمي رحمه الله قال: فمــن يـشــأ وفقــه بفضلـــه ومـن يشــأ أضلـــه بـعـدلـــه فمنـهــم الشـقــي والسـعيـــد وذا مقــــرب وذا طــريــــــد لحكمــة بـالـغـــة قضــاهــا يستوجـب الحـمــد علـى اقتضاهــا وهــو الــذي يــرى دبيـب الــذر فــي الظلمــات فوق صـم الصخــر وســامـع للجـهـر والإخـفـــات بسمـعــه الـواســع للأصـــوات وعلمــه بمــا بــدا وما خـفــي أحــاط علمــا بـالجلــي والخـفـي وهـو الغنــي بذاتـــه سـبحانــه جـل ثنـــاؤه تـعـالــى شـانــه وكـل شــيء رزقـــه عـلـيــه وكلـنــا مـفـتـقـــر إلـيــــه كلــم مـوســى عبــده تكليـمــا ولـم يــزل بـخـلقـــه عليمـــا جـل كـلامــه عــن الإحـصـــاء والحصـر والـنـفـــاذ والفنــــاء لـو صــار أقلامــا جـميع الشـجر والبحـر تلقــى فيـه سـبعـة أبحــر والخـلـــق تكتبـــه بكــــل آن فنت وليـس القــول مـنــه بـفــان والقــول فــي كتـابــه المفصــل بأنــــه كـلامــــه الـمـــنزل على الرسـول المصطفـى خير الــورى ليس بمخلـــوق ولا بمفــــــترى يحفــظ بـالقلـــب وباللســــان يتلــى كـمـــا يسمــع بـــالأذان كـذا بـالأبصـــار إليــه ينظـــر وبالآيــــات خـطــــه يسطـــر وكل ذي مخلـوقــــة حـقيقــــة دون كـــلام بـــاري الخـليـقـــة جلت صفـــات ربنــا الـرحمـــن عن وصفهــا بالخلــق والحـدثـــان فالصـوت والألحــان صـوت القـاري لكنمــا المتـلــو قــول البـــاري ما قـالــه لا يـقبــل التبـديـــلا كـلا ولا أصـــدق مـنـــه قـــيلا وقـد روى الثقـات عــن خـير المـلا بأنـــه عـــز وجــــل وعـــلا فـي ثلــث الليـل الأخــير يـــنزل يقــول هــل مـن تـــائب فيقبــل هل مــن مسـيء طالـب للمغفــرة يجـد كـريمــا قـابــلا للمعـــذرة يمــن بـالخــيرات والفضـائـــل ويسـتر العيـب ويـعطــي السـائــل وأنـه يـجــيء يــوم الفصــــل كمــا يشـــاء للقضـــاء العــدل وأنــه يـــرى بــلا إنـكــــار فـي جنــة الفـــردوس بالأبصـــار كـل يـــراه رؤيـــة العيــــان كمــا أتــى فــي محـكم القــرآن وفـي حــديـث ســـيد الأنــــام من غــير مــا شــك ولا إيـهــام رؤيــة حــق ليــس يمــترونهـا كالشمس صحــوا لا سـحـاب دونهــا السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه. لا يزال الناظم رحمه الله في بحث القسم الأول الذي هو توحيد المعرفة والإثبات، فإن من هذا التوحيد الاعتراف بخلق الله تعالى، والاعتراف بقضائه وبقدره، والاعتراف بقدرته، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، يقول: فمــن يـشــأ وفقــه بفضلـــه ومـن يشــأ أضلـــه بـعـدلـــه يعني: من شاء وفقه للخير، والهدى، وسدده، ومنَّ عليه، وتفضل عليه، وأقبل بقلبه إلى طاعته، وهداه للإسلام، وللأعمال الصالحة، وأعانه عليها، وجعله من عباده الأتقياء، ومن يشأ أضله، وليس ذلك ظلما منه، ولكن عدل منه؛ حيث ظهر أنه ليس أهلا للهداية، وليس من أهلها، وليس من قابليها، قال الله تعالى: { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ } من هداه الله تعالى لم يقدر أحد أن يضله، وإن كان هناك من يسعى في إضلاله، ومع ذلك فإننا مأمورون بأن نسعى في دلالته على الخير؛ حتى تقوم الحجة عليه، وحتى لا يكون هناك له عذر، فإنهم قد يقولون: { مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ } فالعباد مأمورون بأن يبينوا، ويدعوا، ويحققوا، ويناقشوا لهؤلاء المنحرفين الضالين، ويكون ذلك من الأسباب التي جعلها الله تعالى أسبابا للهداية، والتوفيق. والأمر في باطن الأمر إلى الله تعالى، فمن علم بأنه سوف يهتدي يسر له أسباب الهداية، وألان قلبه، وجعله متقبلا يتأثر بالموعظة، وبالتذكير، وبالإرشاد، ويلين قلبه إذا دعي إلى الخير، وذلك دليل على أن الله تعالى خلقه للخير، وأما من حكم الله تعالى عليه بالضلال فلا حيلة فيه؛ ومع ذلك فإننا مأمورون بدعوته، وبالاحتيال في هدايته، وبعرض الحق عليه؛ ولكن حيث إن الله تعالى حكم عليه بالإضلال فإنه لا يهتدي، ولا يقبل ذلك، ولذلك قال الله تعالى: { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } حيث إن الله حكم على أولئك من اليهود بالشقاء والطرد والإبعاد، ومع ذلك رأوا الآيات البينات، ورأوا المعجزات، ورأوا الدلالات، وعرفوا الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ ومع ذلك أصروا وعاندوا؛ وذلك لأن الله حكم عليهم في الأزل بأنهم أشقياء، فلا حيلة فيهم إلا من هداه الله تعالى. كذلك نقول: إن الهداية والإضلال لله سبحانه وتعالى؛ ولكن هناك أسباب جعلها الله تعالى مؤثرة، فهناك من يكون مهتديا ثم يتسلط عليه من يدعوه للضلالة فيضل؛ لأن الله حكم عليه في الأزل بأنه من أهل الضلالة، وهناك من يكون ضالا فييسر الله تعالى له من يهديه، ومن يرشده، فيتأثر لأن الله خلقه للهداية، وجعله من أهلها في قديم الأمر، تذكرون قول النبي صلى الله عليه وسلم: { إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها } ورد أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال: { إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم } فمثل هؤلاء، وهؤلاء، يصيرون إلى ما قدر الله تعالى لهم. ومع ذلك فإن الإنسان عليه أن يأتي بالأسباب التي تجعله من أهل الاهتداء، وعليه أيضا أن يأتي بالأسباب في حق الآخرين التي تجعلهم مهتدين، فدعاة الشر من المفسدين قد قدر الله تعالى عليهم؛ قدر عليهم وقدر لهم ما يعملونه، وكذلك دعاة الخير قدر الله تعالى لهم ما يعملونه، ويثيب هؤلاء على دعوتهم، ويعاقب هؤلاء على دعوتهم، فمن أراد الله تعالى هدايته، وخلقه لها يسر له الأسباب، ومن أراد كونا وقدرا إضلاله يسر له أسباب الضلال . يقول: فمنـهــم الشـقــي والسـعيـــد وذا مقــــرب وذا طــريــــــد هذا تقسيم خلق الله تعالى في قول الله تعالى: { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } ثم قال: { وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ } فأهل الشقاوة محرومون؛ حيث أنهم سلط الله تعالى عليهم من أضلهم وحرمهم الخير، وأهل السعداء مرحومون يسر الله تعالى لهم الأسباب التي تجعلهم من أهل السعادة، وكل ذلك بقضاء الله تعالى وبقدره، فهذا مقرب، المقربون هم أهل السعادة الذين هداهم الله تعالى وسددهم، وأرشدهم، يعملون بعمل أهل السعادة، يعملون بعمل أهل الجنة فيكونون من المقربين. ذكر بعضهم أن أهل الجنة قسمان: الأبرار، والمقربون؛ لأن الله تعالى قال: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } ثم ذكر ثوابهم، ثم ذكر شرابهم قال: { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } فجعل هناك فرقا بين الأبرار والمقربين، فيكون المقربون هم أعلى رتبة من الأبرار؛ ولكن الكل من أهل السعادة، والطريد هو الشقي الذي حكم الله تعالى بطرده وإبعاده عن الخير فلا حيلة فيه. فالكفار الذين لم يرد الله تعالى هدايتهم مثل كفار قريش الذين أصروا على الكفر حتى ماتوا عليه؛ ومع ذلك هدى الله تعالى أولادهم فدخلوا في الإسلام، الوليد بن المغيرة نزل فيه من الآيات ما يدل على شقائه كقوله تعالى: { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا } إلى آخره، ومع ذلك هدى الله أولاده ومنهم خالد بن الوليد وغيره من أولاده الذين اهتدوا، فدل على أن هذا مقرب وهذا طريد، وكذلك العاص بن وائل كان من أشد الكفار عنادا هدى الله ابنه عمرو بن العاص ودخل في الإسلام، وكذلك أمية بن خلف كان من أشد الكفار عنادا هدى الله ابنه صفوان بن أمية وغيرهم كثير. لحكمــة بـالـغـــة قضــاهــا يستوجـب الحـمــد علـى اقتضاهــا يعني: كونه هدى هؤلاء، وأضل هؤلاء؛ فإن ذلك لحكمة بالغة، وإن كنا لا نطلع على جميع ما قدره تعالى وما قضاه؛ بل نعرف أنه ما أسعد هؤلاء إلا لحكمة، وما أضل هؤلاء إلا لحكمة، وليس لهم حجة على الله تعالى بل يعترفون بأنهم مستحقون للعذاب، قال الله تعالى عنهم: { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ } أخبر الله تعالى بأنهم اعترفوا، وأنهم لم يكونوا ممن يتبع بسمعه وبصره { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ } يعني لو كنا نسمع السماع الذي ينفعنا، ونعقل، ونتعقل ما جاءنا، لما دخلنا النار { فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ } وكذلك قال تعالى: { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } اعترفوا بأنهم جاءتهم الرسل وجاءهم النذر فقالوا: بلى، واعترفوا بأنها حقت كلمة العذاب عليهم، وعلى أمثالهم؛ فإذن لا حجة لهم لقول الله تعالى: { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } . وكذلك ذكر الله أنه يخاطبهم وهم في النار فيعترفون ويقولون: { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ } اعترفوا بأنها غلبت عليهم شقاوتهم وضلالهم؛ فدل ذلك على أنهم لهم أسباب جعلها الله تعالى مؤثرة في ميلهم، وفي انحرافهم؛ وإن كان ذلك بقدر الله وداخلا في قدرته، ولهذا قال تعالى: { قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } الحجة لله تعالى فلا حجة لأحدهم، فهو يهدي من يشاء فضلا منه، يضل من يشاء عدلا منه، لحكمة بالغة قضاها، يستوجب الحمد على اقتضاها، نحمده على هداية من هدى، وعلى إضلال من أضل. كما أننا نحمده على قضائه وقدره، وإن كان ذلك قد يكون فيه ضرر ولكنه خير بالنسبة إلى تقدير الله تعالى، فله الحكمة في أن يُمرض هؤلاء ويُصح هؤلاء، وله الحكمة في أن أفقر هؤلاء وأغنى هؤلاء، وله الحكمة في أن أعطى هؤلاء ومنع هؤلاء، وله الحكمة في أن أغاث هؤلاء وأقحط لهؤلاء، لحكمة بالغة قضاها له الحمد على هذا وعلى هذا، فهو الذي يحمد على الخير والشر، يحمد على كل ما قدره وقضاه، نحمده على ما أصابنا من أمراض وعاهات، ونحمده على ما أصابنا من نعم وكرامات. |