الحديث الثاني: رواه الإمام أحمد عن طارق بن شهاب طارق بن شهاب من صغار الصحابة، أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يرو عنه، فرواياته تكون عن الصحابة، وتسمى مراسيل الصحابة، وهي مقبولة. مرسل الصحابي مقبول؛ لأنه لا يروي إلا عن صحابي، ذكر فيه هذه القصة: أن قوما كان لهم صنم، وثن: إما قبر، وإما صخرة، وإما خشبة منحوتة على هيكل، وإما بقعة من الأرض، وإما بناية، وكانوا قد جعلوها على ممر الناس، فكل من مر بهم ألزموه بأن يتقرب إلى هذا الصنم بشيء يعظمه. التقرب إليه بما يعظمه به. يعني: يلقي عليه شيئا، فمن ألقى عليه – مثلا - دراهم فقد عظمه، ومن ألقى عليه تمرا، أو خبزا فقد عظمه، ومن جعل عليه سراجا فقد عظمه، ومن ذبح عليه فقد عظمه، فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن هذا الرجل لما قالوا: له قرب، اعتذر بأنه لا يجد شيئا يقربه، لا يجد مالا، فقالوا له: قرب ولو ذبابا. أمسك الذباب ثم اذبحه، واجعله تعظيما لصنمنا هذا. حشرة معروفة مستقذرة، هذا الذباب من أصغر المخلوقات والحشرات، ما فائدته؟ لا فائدة بالتقرب به، ولا ينفع، ولكن أرادوا بذلك أن يكون قد عظم صنمهم، عظم معبودهم بنوع من هذا التعظيم، هذا الرجل يظهر أنه كان مسلما، ولكن تهاون بهذا الشيء الحقير، فعظم صنمهم مما يدل على ضعف إيمانه، وضعف توحيده؛ حيث أنه لم يعرف أن تعظيم الأصنام، وتعظيم المعبودات من دون الله، ولو كان بعمل يسير، ولو كان بعمل بدن أنه شرك، فلما فعل خلوا سبيله، وتركوه يجاوز المكان. فذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه صار من أهل النار. أما الثاني: فكان توحيده راسخا، وقلبه ممتلئ بالتوحيد، فلما قالوا له: قرب، صبر على القتل، وقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله، فلم يجدوا إلا أن قتلوه. قتلوه تقربا إلى صنمهم، وانتصارا له؛ فدخل الجنة، حيث أنه صبر على القتل دون أن يقع في شيء من الشرك. قوله: { دخل الجنة رجل في ذباب } يعني: بسبب ذباب. أي: بسبب عمل زهيد، ومعلوم أن الذي دخل الجنة كان دخلها بتوحيده، دخلها بتوحيده وإيمانه وأعماله الصالحة التي نشأت عن التوحيد، والذي حمله على أن يبخل بدينه، ولا يتقرب ولو بشيء قليل كذبح ذباب، والذي دخل النار في ذباب كان مسلما، ولكن توحيده ضعيف؛ فكان من نتيجة ذلك أنه تساهل فقرب هذا الذباب، فخلوا سبيله. الصنم: يطلق على كل معبود، وخصه بعضهم بما له صورة، وما له شيء شاخص؛ فإنه يسمى صنما كالقبر مثلا إذا رفع وصاروا يعبدونه فهو صنم، وكذلك الصورة المنحوتة إذا كانوا يعبدونها، ويعكفون حولها، ويتمسحون بها تسمى صنما، والشجرة التي يعتقدون فيها، ويدعونها كالعزى تسمى صنما، والصخرة التي يعظمونها ولو لم تكن على صورة هيكل كاللات تسمى صنما، وهكذا الصور التي هي مجسمة إذا كانت تعبد فإنها تسمى أصناما، بأي نوع من أنواع العبادة. وأما إذا لم يكن له صورة فإنه يسمى وثنا، كالذين مثلا يعبدون الأموات وإن لم يصوروهم، وإن لم يعبدوهم عند قبورهم، هناك من يعبدون عبد القادر مع أنهم لا يعرفون قبره، أو يكونون بعيدين عنه، فهؤلاء قد عبدوا غير الله، وقد أشركوا بالله تعالى. فالحاصل: أن الصنم كل ما يعبد من دون الله إذا كان له هيكل. ومعنى قوله: ( لا يجاوزه أحد ) أي: لا يتعداه ويمر به إلا قرب إليه، والتقرب: هو فعل شيء يقرب الإنسان إذا كان بعيدا؛ ولذلك تسمى الطاعات قربات، يقولون: إنها تقرب إلى الله تعالى، في الحديث: { إذا تقرب العبد مني شبرا تقربت منه ذراعا } إلى آخره... يعني: تعبد بعبادة تقربه إليه. فهذا الباب دليل على أهمية التوحيد، وأن من جملته الذبح لمخلوق غير الله تعالى، ولا يدخل في ذلك الذبح للإكرام لأجل اللحم إذا نزل بك ضيف أو استزرت صديقا لك، وذبحت له كبشا مثلا أو ذبحت له شاة؛ فإن هذا الذبح لا يقال: إنه شرك؛ لأنك ما قصدت بذلك تعظيمه بذبحه له، وإنما قصدت بذلك إكرامه، وإطعامه هذا اللحم.كذلك من الذبح - يعني: الذبح المباح- الذبح للحم يعني: للأهل والأكل وللتفكه بالطعام وما أشبهها، فأفضل الذبائح القربات التي تقرب إلى الله تعالى كالهدي والأضاحي وما أشبهها، وأقبحها ما يذبح تعظيما لمخلوق، سواء كان ذلك المخلوق حيا أو ميتا، إذا لم يقصدوا إكرامه بإطعامه من ذلك اللحم. يوجد في كثير من الدول إذا قدم مثلا إنسان؛ رئيس أو ملك أو زعيم من الزعماء الذين لهم مكانة؛ فإنهم يقفون له على الطريق، وإذا مر ذبحوا ما معهم، فهذا يقف ومعه جمل إذا مر عقر الجمل، وهذا معه كبش، وهذا معه نعجة، وهذا معه تيس، وهذا معه دجاجة، وهذا معه أرنب؛ فمجرد ما يمر يذبحونها حتى تسقط تعظيما لهذا الزعيم، أو لهذا الرئيس، أو نحو ذلك. فما حكم هذه الذبائح؟ لا يجوز ذبحها وإذا ذبحت .. فهي مما أهل به لغير الله، فلا يجوز أكلها. نكتفي بهذا، ونواصل القراءة غدا إن شاء الله في مثل هذا الوقت، ويكون هو آخر الدروس في هذه الدورة. |