وذهب الجمهور إلى أن السحر له حقيقة، وخالف في ذلك رؤساء المعتزلة، وأنكروا أن يكون له حقيقة وقالوا: لو كان له حقيقة لكان الساحر يستطيع أن يغير الأكوان، يغير الهياكل؛ فيكون إما أنه يخلق مع الله، أو يغير خلق الله، وإما أنه يلتبس بمعجزات الأنبياء، وبخوارق العادات التي يجريها الله -تعالى- على يدي أنبيائه وأوليائه؛ وادعوا أن السحر الذي يعمله الساحر إنما هو خيالات؛ تخييل على الأعين لا أنه يغير الحقائق تغييرا ظاهرا؛ واستدلوا بما قال الله تعالى عن سحرة فرعون: { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } فقالوا: هذا دليل على أنها خيالات لا أنها حقائق. وأما الجمهور فذهبوا إلى أن له حقيقة، وأن له تأثيرا، ولكن لا يكون إلا بقدرة الله -تعالى-؛ بتقديره الكوني القدري بمعنى: أنه لا يكون في الوجود إلا ما يريد، وبمعنى: أن الساحر لا يضر ولا يؤثر في شيء إلا بإرادة الله، والإرادة هاهنا إرادة كونية قدرية لا إرادة دينية شرعية؛ والدليل قول الله تعالى: { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } فأخبر بأن هذا من حيلهم، ومن أعمالهم أنهم يفرقون بين المرء وزوجه، وأن هذا بإذن الله أي: بإذن الله الكوني القدري لا بإذنه الشرعي؛ فإنه حرم هذا الفعل، وتوعد عليه وعاقب عليه، مع أن الساحر لا يقدر على ذلك إلا إذا أراد الله إرادة كونية قدرية. فهذا دليل على أن السحرة يؤثرون؛ فمن السحر ما يقتل، ومنه ما يمرض، ومنه ما يغير بعض الهياكل والصور وما أشبه ذلك؛ والدليل هذه الآية في قوله: { مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } ويسمى هذا النوع الصرف: يصرف كل واحد من الزوجين أو يصرف أحدهما عن الآخر بحيث تحصل البغضاء، ويحصل النفرة؛ ينفر أحدهما من الآخر، ومنه أيضا: العطف وهو نوع من السحر، والعطف: هو زيادة المودة وزيادة الحب الزائد عن القدر المعتاد؛ الساحر مثلا إذا رأى اثنين بينهما نفرة عمل عملا يقرب أحدهما إلى الآخر، ويجمعهما ويزيل البغضاء، وربما يفعل زيادة على ذلك، يفعل أمرا أكبر من ذلك. وقد ذكر لنا بعض المشائخ قصة امرأة دخلت عليها عجوز اشتكت المرأة أن زوجها لم يكن ألوفا لها، فقالت: أنا أعطيك دواء يكون آلفا لك ألفا شديدا، فأعطتها دواء في صرة، ثم إن المرأة قبل أن تعطيه زوجها جعلت ذلك الدواء في خبزة، وأطعمتها كبشا عندها: خروف ألوف يعني: عادي، ولما أكل ذلك الخبز فيه ذلك الدواء صار يتبع هذه المرأة دائما أينما ذهبت، وإذا جلست لا يقر حتى يلصق رأسه ببطنها، وهكذا فتعجب من ذلك زوجها وتعجب الناس ما هذا الذي جعل هذا الكبش يتابعها دائما؟! فعند ذلك لما ذبح الكبش وجد رأسه أو دماغه كله دود ولا يقر ولا يسكن إلا إذا ألصق رأسه ببطنها، فأخبرت زوجها تمدح به أنني صرفت هذا عنك، ولو أعطيتكه لكنت مثل هذا الكبش، ولكنه لما سمع ذلك منها فارقها، وقال: هذه المرة أعطيتيه الكبش وأخشى في المرة الثانية أن تغتري وتعطينيه؛ فهذا يسمى العطف يعني: زيادة المودة والتقريب بين الاثنين. ومن الدليل على أن السحر له تأثير قول الله تعالى: { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } ( النفاثات ): السواحر، لولا أنه يضر السحر لم يحتج إلى الاستعاذة من شرهن؛ فإنه دليل على أن شرهن يضر ويؤثر، وقد ثبت أيضا في الصحيح حديث عائشة قالت: { سحر النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى أنه ليخيل إليه أنه يأتي النساء وما يأتيهن، فدعا الله ودعاه، ثم قال: أشعرت أن الله قد شفاني؟ أو أنه قد أجاب دعوتي؟ أتاني ملكان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي فقال أحدهما للآخر: ما بالرجل؟ قال: مطبوب. قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي. قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة أو ومشاقة، وجف طلعة ذكر في بئر ذروان فذهب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى تلك البئر فاستخرج ذلك السحر، فوجده في جف طلعة نخلة } - يعني: فرخ نخلة ذكر - يعني: فحال وقد تغير الماء، يقول: { إذا ماء البئر مثل نقاعة الحناء، وإذا نخلها مثل رؤوس الشياطين } يعني: قد غيره ذلك، واستخرج ذلك العمل من جُف تلك الطلعة يقول: فزال أثره . هذا العمل أراد به هذا اليهودي أن يمنع أو يعمل عملا يمنع النبي -صلى الله عليه وسلم- من إتيان النساء، ولكنه يظهر أنه صار فقط فيما بينه وبين عائشة لا يقدر على إتيانها، بقية نسائه لم يكن بينه وبينهن هذا، ولهذا ما فطن له إلا عائشة وأما بقية زوجاته فلم ينقل عنهن شيء من ذلك، كذلك بقية الصحابة لم يذكروا شيئا من تغيره فتوصل هذا الساحر إلى ما يسمى بالعقد أي: عقده عن إحدى نسائه، وهو من أعمال السحرة ، يحصل أن الساحر يعمل عقدا للرجل عن امرأته بحيث لا يصل إليها ولا يقدر على إتيانها؛ إذا قرب منها بطلت حركته. هذا من عمل السحرة . كذلك أيضا روى ابن جرير وغيره قصة امرأة تقول عائشة جاءتني امرأة بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- تقول: فرأيتها تبكي لما أنها لم تجد النبي -صلى الله عليه وسلم- سألتها عائشة ما قصتك؟ فأخبرت بأنه أتتها امرأة عجوز كبيرة، تقول: فشكوت إليها غيبة زوجي فقالت: تريدين أن يعود إليك؟ قلت: نعم، فلما جاء الليل أتت لي بكلبين أسودين، فركبت إحداهما، وركبت الآخر، فلم يكن إلا شيء قليل، وإذا نحن ببابل فإذا رجلين طويلين، فسألاني، فقلت: أتيت لأتعلم السحر. فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري، فقلت: أريد أن أتعلم. فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه، فذهبت فلم أفعل وجئت. فقالا: ما رأيت؟ قلت: ما رأيت شيئا. قالا: لم تفعلي، اذهبي فبولي فيه. فذهبت فبالت فيه فرأت: فخرج منها فارسا مقنعا فصعد إلى السماء، فأخبرتهما، فقالا: صدقتِ هذا هو الإيمان خرج منك، فعلماها السحر فرجعت، فقالت للعجوز: ما تعلمت شيئا. قالت: بلى، لا تريدين شيئا إلا حصل؛ فأخذت حبا ورمته في الأرض وقالت: انبت فنبت، وقالت: استحصد؛ فاستحصد، وقالت: انطحن؛ فانطحن، تقول: فلما رأيت أني لا آمر بشيء إلا حصل؛ سقط في يدي، فعرفت أن هذا من الشيطان، فجاءت تائبة؛ فهذا دليل أيضا على أن السحر يؤثر، وأن له تأثير. |