وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله، ومن تبعه على هدى إلى يوم الدين، أما بعد: فقد تعودتم في مثل هذه الليلة المباركة أن يحصل مثل تلك اللقاءات، التي يلتقي فيها علماء بأفراد من طلبة العلم، وعوام الناس؛ لأجل أن يتفقهوا في أمور دينهم مما يحتاجون إليه، سواء كان ذلك الأمر في أمور التبيان، أو في أمور تقتضي تبيينا لهم، وتوضيحا لهم عن أن يبتعدوا عن شيء يوقعهم في آخرتهم إلى سوء مآل. وإنَّ من ضمن تلك الأمور التي ينبغي للمسلم أن يحترز عنها، ويبتعد عنها، تلكم الربا، وما يتعلق به من المعاملات الربوية، وهذا هو موضوع ندوتنا هذه الليلة: عن الربا، وما يتعلق به من الأعمال الربوية، وهل يمكن إيجاد بديل أو غير ذلك؟ هذا هو الموضوع الذي شغل أذهان كثير من الناس، من أجل أن يتبصروا في أمور دينهم، لما رأوا واقع الناس وقد انتشرت تلكم البنوك الربوية، مؤذنة بالحرب لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- هذا ما سيحدثنا عنه أولئك المشائخ، مبينين لنا ذلك على ضوء الكتاب والسنة. نرجو من المشائخ التفضل بالحضور؛ لأجل إقامة تلك الندوة. الآيات الواردة في تحريم الربا، وكذلك الأحاديث الواردة عن النبي- صلى الله عليه وسلم - وهل حُرّم الربا تحريما قطعيا، بمعنى: أنه لم يكن تدريجيا، أم حصل به التدريج كما في الخمر، وسردت الآيات القرآنية بداءة نزوله تدريجيا، ليس مفاجئا، أو بتا؟ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه. الإنسان في هذه الحياة لا غنى له عن المال، الذي يقوم بتغذية بدنه، وبترتيب حالته، وباكتفائه عن غيره، وقد جعل الله لك وجوها كثيرة لمكاسب حلال؛ فأباح كل كسب للمال ليس فيه اعتداء، ولا ظلم، ولا ضرر على الغير، وأباح أنواعا من الاكتساب للأموال؛ حتى يجمع الإنسان من المال ما يكون كافيا له في قوته، وقوت من يمونه. وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على الأمر بتكسب الإنسان، وبطلبه للمعيشة، وبكف وجهه عن الحاجة إلى الناس؛ حتى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في بعض الأحاديث: { لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة من حطب فيبيعها، فيكف بها وجهه عن الناس، خير له من أن يسأل الناس أعطوه، أو منعوه } فحث في هذا على التكسب؛ ولكن على الكسب الحلال. ولما كان كذلك كانت همم الناس إلى اكتساب المال كثيرة، بحيث إن منهم من تكون همته لكسب حلال، ومنهم من تكون همته لكسب مشتبه، ومنهم من تكون همته الكسب الحرام، فتختلف حالات الناس في ذلك، فإذا وفّق الله العبد في حرفة من الحرف التي لا شبهة فيها؛ يكف بها وجهه عن الناس، فإنه يكون مستغنيا ومتعففا، ومبتغيا للحلال عن الحرام. وفي الوجوه -وجوه المكاسب- كثرة، فمن المكاسب مثلا: الحراثة، والتجارة، والحرف الأخرى، وكذلك تربية الدواب، والدواجن، والمواشي، ونحوها، كل هذه الحرف التي تتوجه إليها همة الكثير من الناس، فمنهم من تكون همته في الأرض، في حرثها وغرسها وبذرها، واستثمارها، ويجد في ذلك معيشة، ويجد في ذلك كسبا، ويجد في ذلك غنى عن غيره من الحرف، وهو من أفضل المكاسب، يعني: كسب الحرث، ونحوه، وقد جعلها الله تعالى من جملة من الحرف التي زينت للناس؛ في قوله تعالى: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ } فجعل الحرث من جملة ما زين للناس؛ وذلك لأن فيه كسبا، وإنتاجا، ينفع به الإنسان نفسه، وينفع به أيضا غيره؛ فيأكل ويبيع وينفع الناس؛ يزرع حبوبا؛ ويغرس أشجارا، ويجني ثمارا، وإن كان في ذلك كلفة ومشقة، فهذا مما يثاب عليه الإنسان إذا احتسب، لا سيما إذا تصدق منه، ونفع به غيره. ومن الناس من تكون همته اكتساب المثل في المعاملات، التي هي: الأرباح في التجارات ونحوها، ولا شك أن التجارة أيضا من جملة الحرف التي يجتنى بها المال قل أو كثر. والتجارة هي: شراء السلع لأجل الربح فيها إذا بيعت بثمن زائد على قيمتها التي اشتريت به. هذه هي التجارة، وقد وردت في القرآن في مثل قوله تعالى: { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا } و قوله: { قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ } فالتجارة التي هي: البيع والشراء من جملة الحرف؛ ولكن قد يلتبس بها ما يفسدها، أو يدخل الفساد إليها؛ وذلك لأن التجار، والباعة قد يتعاملون بمعاملات فاسدة، إما ربوية أو غيرها؛ فتدخل المحرمات في هذه المعاملات فلا جرم تدخلت الشريعة الإسلامية في بيان الحرف الحلال، وفي بيان التجارات، والمعاملات الحلال. |