ومنها أيضا المعاملات الربوية، التي المقام مقام البحث فيها، وقبل أن نبدأ فيها نقول: على الإنسان أن يحرص على طيب كسبه، وعلى أن لا يدخل عليه إلا كسب حلال، ألا يتغذى إلا بغذاء مباح بغذاء طيب؛ فإن للغذاء الطيب تأثيرا في العقل، وتأثيرا في النفس، وتأثيرا في العبادة، وتأثيرا في المجتمع، الغذاء الطيب الكسب الحلال يكسب بدنك قوة أتم من غيرها، يكسب قلبك صفاء وإخلاصا ومودة، الغذاء الطيب يكون سببا في قبول الأعمال، يكون سببا في إجابة الدعوات، الغذاء الطيب غذاء الأبدان الطيبة، يكون سببا في بركة الله، ومباركته للأعمار وللأعمال وللأموال، وأثر ذلك واضح. وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم– قال: { كل لحم نبت على سحت فالنار أولى به } والمراد إذا تغذى بالسحت، الذي هو: المال الحرام بجميع أنواعه، إذا نبت على هذا الحرام فالنار أولى به -والعياذ بالله- وقد اشتهر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر أن إجابة الدعاء من أسبابها إطابة المطعم، فقال لسعد { أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة } . وهذا مشاهد أن الإنسان كلما اقتصر على الحلال، على الكسب الطيب الذي ليس فيه أدنى شبهة من الحرام، ولا من المشتبه، فإن الله تعالى يجعل دعاءه مستجابا، إن دعا الله برزق رزقه، إن دعا ربه بكشف ضر كشفه، إن دعا لنفسه قُبِلَ دعاؤه، إن دعا للمسلمين استجيبت دعوته، دعوة خاصة، أو دعوة عامة، هذه من فوائد إطابة الرزق، هذه من فوائد إطابة المطعم. وأما إذا كان المطعم خبيثا فإن الدعاء مردود، اشتهر الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم– قال: { إن الله طيب، لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث، أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟! } . تأمل كيف ذكر أسباب إجابة الدعاء، منها: إطالة السفر، فإن المسافر طويل السفر يكون رقيق القلب، ويكون خاشعا، متواضعا، وذلك من أسباب إجابة الدعاء، ومع ذلك ما استجيب دعاء هذا، كذلك وصفه بأنه: { أشعث أغبر } يعني: متضعف متذلل، ليس له عناية ببدنه، ورأسه قد تشعث، ووجهه قد اغبر، وذلك من صفة الذل، ومع ذلك ما استجيب دعاؤه، مع أن الأشعث الأغبر غالبا يجيب الله دعاءه؛ لأنه خاشع القلب، ونذكر الحديث الذي يقول فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- { رب أشعث أغبر ذي طمرين، مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره } . والوصف الثاني: أنه يمد يديه إلى السماء، يرفع يديه، يسأل ربه، ورفع اليدين من أسباب إجابة الدعاء، كما يقول -صلى الله عليه وسلم- { إن ربكم حيي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صِفْرا } يعني: خاليتين، ومع ذلك ما أجيب دعاؤه، كذلك وصفه بأنه يكرر السؤال، يكرر للنداء، يدعو ربه: يا رب، يا رب، معترف لله بالربوبية، معترف بأنه ربه، أي: مالكه وخالقه ومدبره، والمتصرف فيه، ومع ذلك ما أجيب دعاؤه، وسبب ذلك خبث المطعم، وخبث مطعمه، فإذن المسلم يحرص على إطابة مطعمه؛ حتى تجاب دعواته؛ وحتى تقبل صلواته، وسائر عباداته. وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن المكاسب ثلاثة أقسام: قسم حلال واضح الحل، وقسم حرام واضح الحرمة، وقسم مشتبه، يشتبه على بعض الناس، يقول -صلى الله عليه وسلم - { الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه - ثم يقول- ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه } إلى آخره، فأنت إذا رزقك الله علما وبصيرة؛ عرفت الكسب الحلال عرفته؛ لأن الحلال تطمئن إليه النفس، يطمئن إليه القلب؛ لأن الحلال آثاره واضحة، وأدلته صحيحة صريحة، فليس فيه توقف، الحلال: الكسب الطيب. وأما الحرام فهو أيضا واضح يعرفه الجاهل والعامي، والصغير والكبير يعرفونه، ومع ذلك يتجهمه كثير من الناس مع علمهم بأنه حرام، فيأكلون الحرام، والسحت وهم عارفون، وإنما المشتبه هو الذي واسطة بين هذا وهذا، لا يعرفه إلى الخواص-خواص خلق الله، وعلماء المسلمين، ومتبصروهم- يعرفون هذا المشتبه، أنه إما من هذا، وإما من هذا. أما الجهلة، وعوام الناس، وأكثرهم فإنهم لا يتحققون من أي القسمين هو؟ فمن الناس من يقول: ما دام ليس بحرام فإننا سنأخذه، ونتعامل به، ونجعله كسبا، ما دام أنا لم نتحقق حرمته، الأصل الإباحة، والأصل الحل. وهؤلاء -لا شك - أنهم قد يقعون في الحرام أحيانا، وقد ضرب لهم النبي -صلى الله عليه وسلم - مثلا بالراعي يرعى حول الحمى، الذي معه دوابه: إبله، وسوائبه، يرعى حول أرض قد حماها ملك من الملوك، ملك له سطوة، ملك له هيبة، حمى هذه الأرض، هذا الذي جاء يرعى دوابه حولها قد يغفل، قد يسهو، قد ينام؛ فترتع دوابه في هذا الحمى، فيأتيه حراس الملك، فيقبضون عليه، ويصادرونه أمواله، وربما حبسوه، وضربوه، لماذا جئت حول هذه الأرض، وأنت تعرف أنها حمى لهذا الملك؟ فكذلك الذي يتعامل كثيرا بمثل هذه المعاملات المشتبهة، يقع أحيانا، وكثيرا في الأمور المحرمة؛ ولهذا قال: { ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام } . فإذَنْ؛ نحث إخوتنا المسلمين على أن يتنزهوا، يبتعدوا كل الابتعاد عن الحرام، ويتنزهوا عن المشتبهات، التي يُخاف أنها ذريعة، ووسيلة إلى إيقاعهم في الحرام، فإنهم إذا فعلوا وتنزهوا، سلم بذلك دينهم، وعرضهم، وهذا معنى قوله: { فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه } براءتك لدينك أن يسلم من الوصمة، أن يسلم من القدح، يسلم دينك، وتسلم عباداتك مما يقدح فيها، ومما ينقصها، وتسلم عباداتك مما يبطلها، أو ينقص ثوابها. وأما صيانتك لعرضك فإنك إذا ابتعدت عن المشتبهات لن يجد الناس طعنا يطعنون به في عرضك، ولن يقدحوا في عدالتك، وسلم عرضك من الناس، لن يتكلموا فيك، بخلاف ما إذا تعاطيت شيئا من المشتبهات، فإنك تعرض الناس لسبك ولعيبك ولسبك، والقدح في عدالتك، والقدح في ديانتك عن علم أو عن جهل، أو عن تصور خاطئ. |