حاجة الأمة ماسة إلى فهم القرآن الذي هو حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم. هذا استنباط من هديه عليه السلام الذي في سنن الترمذي حديث طويل الذي رواه الحارث الأعور عن علي رضي الله عنه أنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ما المعتمد فذكر هذه الصفات في القرآن. فقال: { عليكم بالقرآن فإنه حبل الله المتين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء. من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم. من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله } . هذه من صفات القرآن ، والحديث طويل مشهور؛ ولكنه ضعيف؛ لضعف إسناده عن الحارث الأعور فإنه كذاب كما ذكر ذلك بعض المفسرين. الحارث الأعور يقال له: أبو عبد الله تلميذ لعلي ومع ذلك فقد ذكروا أنه كذاب. روى مسلم في مقدمة صحيحه عن الشعبي قال حدثني الحارث الأعور وكان كذابا. واشتهر أيضا كذبه في كثير من الأحاديث. ومع ذلك فلما كانت الميزة لعلي فإن الرافضة يقدسونه، ويعظمونه، حتى ألف بعض المعاصرين تأليفا في ترجمته، والرد على الذين ضعفوه . ولكن الجمهور على أنه ضعيف. وكتاب .. تحقيق أحمد شاكر للمسند لما جاء إلى ترجمته في أول حديث مر به عن علي قال: إنه فيه كلام كثير تصحيح وتضعيف ونستخير الله تعالى ونقدم المضاعفة. ثم أخذ يضعف كل حديث يرويه الحارث عن علي . ولكن هذه الصفات صحيحة منطبقة على القرآن، فإنه حبل الله المذكور في قوله تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا } فسر بأنه القرآن. وهو الذكر الحكيم في قوله تعالى: { مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ } وهو الصراط المستقيم في قوله: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ } إلى آخر ما ذكر. والمؤلف ما جزم بأنه حديث، وذلك لأنه يعرف بُعده. استدل على هذه الصفات بهذه الآيات. من الآيات آيات سورة طه قول الله تعالى: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } لا شك أن الهدى هنا هو الكتاب والسنة الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم من اتبعه { فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } والاتباع يراد به التمسك به، والعمل الصحيح. { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي } يفسر الذكر هنا بأنه ذكر الله تعالى باللسان وبالقلب وبالجوارح، ويفسر الذكر بأنه هو القرآن؛ لأن الله تعالى سماه ذكرا في آيات كثيرة، كقوله تعالى { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } يعني القرآن. ولأن فيه تذكير الناس كقوله تعالى: { لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ } { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } يعني ضيقة، ولو كان في الدنيا في سعة عيش. { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } قيل: إنه عمى حقيقي، وفسر بأنه أعمى عن حجته. ولكن قوله: { لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا } يدل على أنه العمى الحقيقي الذي هو طمس العينين. { قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا } يعني القرآن؛ أعرضت عنها. { وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } على حد قوله تعالى: { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } . ثم ذكر الآيات من سورة المائدة { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ } سماه نورا يستضاء به، ومبينا أي بَيِّن واضح الدلالة. { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ } السبل: الطرق السوية التي من سار عليها نجا. { مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ } يعني: من قصد رضا الله تعالى هداه الله. { وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ } الظلمات يعني: الجهالات، والكفريات، والنور هو: الإسلام. { وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } يعني: طريق سوي. ثم ذكر الآيات من أول سورة إبراهيم { الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } هذا الكتاب هو القرآن تخرج به الناس { مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } الصراط هنا: هو الطريق السوي، وأضافه إلى الله تعالى { الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } . كذلك الآيات من آخر سورة الشورى { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } وهو هذا القرآن. والروح ما تحصل به الحياة الحقيقية. وقد يطلق على ما تحصل به الحياة المعنوية. فالحياة الحقيقية هي الحركة، فمثلا كل حي متحرك إذا خرجت روحه فإنه يبقى جسدا لا حركة فيه. يقال: خرجت روحه الآن يعني مات. وإن كانت قد تخرج ثم تعود كما في النوم أو نحوه. ولكن هاهنا الروح روح معنوية يحصل بها حياة القلوب. حياة القلوب حياة معنوية بمعنى انتباه المسلم ومعرفته لما خلق له، وحياة قلبه بحيث يعرف ما ينفعه وما يضره، يكون ذلك بواسطة تعلمه لهذا القرآن { رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } يعني بأمرنا. { مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ } يعني قبل ما ينزل إليه ما كان يدري ما الكتاب. { وَلَا الْإِيمَانُ } حتى أنزل الله تعالى عليه الوحي. { وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا } فسماه روحا وسماه نورا. { نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } . المشيئة هاهنا: هي المشيئة القدرية، يعني: من قدر الله تعالى هدايته فإنه يهتدي بهذا النور. { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } الهداية هاهنا: هداية الدلالة. { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي } أي: لتدل من اتبعك { إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ } الصراط هنا هو الطريق الذي يسار عليه؛ ولكن السير عليه إنما هو بالأعمال ليس بالأقوال. صراط بالأعمال، وليس صراطا يسار عليه بالأقدام ولا بالأقوال فقط؛ بل التطبيق العملي { صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } ملكا وخلقا وعبيدا. { أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } . ذكر أنه كتب هذه المقدمة مختصرة، ولو توسع فيها لقدر على أن يجعلها مجلدا أو أكثر بحسب تيسير الله تعالى. من إملاء الفؤاد: يعني أنه أملاها من قلبه، أملاها من صدره، ولم يحتج فيها إلى مراجعة كتب، ولا إلى أخذ من نقول. من تيسير الله تعالى من إملاء الفؤاد والله الهادي إلى سبيل الرشاد. |