وقد سلك ابن كثير رحمه الله في التفسير هذه الطريقة تفسير القرآن بالقرآن، وإذا ذكر آية فيها شيء من الإجمال ذكر الآيات الأخرى التي فيها شيء من التفصيل، وقد تكون المجملة مفصلة بما بعدها؛ مثل قوله تعالى: { إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا } فسر الهلوع بالآية التي بعدها وهي قوله: { إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } فهذا تفسير القرآن بالقرآن. وأما في القصص؛ فإنها تكون أيضا كثيرة، يكثر الإجمال ويكثر التفصيل. ففي مثل قول الله تعالى عن قصة موسى { وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا } ؛ ففيها ذكر { كَأَنَّهَا جَانٌّ } والجان يعم ما كان متشيطنا من الجن، ويعم أنواعا من الأفاعي ونحوها، ولكن بين في آيات ففي سورة طه: { فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى } هذا ذكر فيها أنها حية وهو يعني بالجان أنه الحية. وفي سورة الأعراف قال تعالى: { فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ } والثعبان نوع من الحيات، ففصل الله تعالى الجان في الآية الأخرى: { كَأَنَّهَا جَانٌّ } بقوله: { فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ } { فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ } وما أشبه ذلك. فمثلا في قصة موسى خاطبه الله تعالى بقوله: { إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ } في هذه الآية نوع من الإجمال فصل في سورة القصص في قوله تعالى: { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي } إلى قوله: { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ } فقوله: { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ } فسر في الآية الأخرى بأنه فرعون { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } إلى آخر الآيات. وكذلك في كثير من قصص الأنبياء تأتي مجملة كما في سورة الحاقة: { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ } أجملت "الطاغية" ها هنا، وفصلت في مكان آخر أو في أماكن كقوله تعالى: { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً } ففسرت "الطاغية" بأنها الصيحة. والآيات المجملة في مثل الثواب والعقاب، كثيرا ما يذكر الله تعالى ثواب أهل الجنة مجملا، ويفصله في موضع آخر، وكذلك عقاب أهل النار في آيات مجملة ويأتي مفصلا في موضع آخر. يذكر أنواعا من العذاب ما ذكرت إلا في ذلك الموضع، ومذكور آيات فيها شيء من الثواب تفصيلا لما أجمل. ولا شك أن هذا لأن القرآن بيان، والله تعالى وصف القرآن بقوله: { هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ } يعني يبين لهم الأحكام. ثم أيضا إن الآيات القرآنية تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم؛ تنزل عليه في بعض المناسبات؛ لأجل تثبيته تثبيت قلبه كقوله تعالى: { كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا } ففي حين نزلت عليه كان يكون للمناسبة أن تكون مجملة في بعض الأماكن فيحصل بذلك التثبيت { لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } . وأحيانا يحتاج إلى زيادة إيضاح؛ فتوضح وتبين في الأماكن الأخرى، ويبين أن القصد من هذه الجملة كذا وكذا وأشباه ذلك. ومن أراد الأمثلة عند كل آية غالبا، وجد ذلك في تفسير ابن كثير رحمه الله. وكذلك أيضا في تفسير الشنقيطي رحمه الله، سماه أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، وهناك أيضا تفسير واسع لأحد علماء المصريين سماه تفسير القرآن بالقرآن، يعني إيضاح الآيات بعضها ببعض. وسبب اهتمامهم بذلك؛ أن كثيرا من الذين يفسرون قد يحملون الآية على ما يفهمونه، ولا يتفطنون للمواضع الأخرى؛ فيقعون في الغلط. بعضهم فسر آية الاستواء في طه في قوله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ } فقال: استوى له ما في السماوات. يعني أن قوله: { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ } تفسير لـ { اسْتَوَى } يعني: ملك ما في السماوات، أو ذل له ما في السماوات. وغفلوا عن الآيات الأخرى؛ مثل قوله: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } و { اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ } ففسروا آية في موضع ولم يتذكروا المواضيع الأخرى. كذلك بعض الحلوليين فسروا قول الله تعالى في سورة الأنعام: { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } فقالوا: إن الله في السماوات وفي الأرض. هكذا قالوا، وغفلوا عن تفسيرها بالآية التي في سورة الزخرف؛ وهي قول الله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } يعني أنه إله من في السماوات، وإله من في الأرض. فيكون هذا معنى آية الأنعام: { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ } يعني وهو الإله في السماوات وفي الأرض. فيتبين من ذلك أن كثيرا من الذين يأخذون آية في موضع ويحملونها على أفهامهم، قد غفلوا عن تفسيرها بالآيات الأخرى التي تبين معناها؛ مع أن التفاسير الأخرى، أو تفسير الصحابة، أو تفسير الأحاديث لو رجعوا إليه لكان كافيا، ولكن كثر منهم أنهم لما كان لهم أهواء ولهم ميل غفلوا عن الآيات الأخرى، وأخذوا نوعا آخر. وقد ذكرنا قصة ذلك الجهمي الذي جاء إلى أبي عمرو القارئ وطلب منه أن يقرأ قول الله تعالى: ( وكلم اللَّهَ موسى تكليما ) فبين له أبو عمرو أنك غفلت عن قول الله تعالى: { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } فإنك لا تقدر على أن تحرف تلك الآية. وكذلك الذين فسروا { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } ؛ قالوا: جرحه ربه، غفلوا أيضا عن قول الله تعالى: { إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي } إن الله تعالى بين كلامه وأن قوله: { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } يعني بكلام مسموع، وغفلوا أيضا آيات النداء التي فيها: { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى } { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى } وكذلك المناجاة { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } فيأخذون موضعا ويحملونه على ما يهوونه ويغفلون عن المواضع الباقية، ويكون ذلك دليلا على غفلتهم، والأمثلة كثيرة. |